بقلم: ياسر عرمان
زاخر بالكرم والعطاء كاسمه عبد الكريم أعطى بلاده بعملة لا تصدا وتزداد قيمة مع الزمن اسمها الإبداع ولم يسأل عنها مقابل ويكفيه إنه رمز من رموزها ونجم ساطع من أنجمها، كرس حياته في محراب الفن ونشر درره الغوال على مر الأيام والسنوات والعقود. غنى للحب والجمال والناس والمدن القريبة والبعيدة من مروى الى “باندونق” ولـ “كينياتا” وناصر، وغنى للأعياد وللنساء وبشرّ في فتاة الغد التي غناها لمناصرة تقدم المرأة وتحرير النساء، ونحو (سودان جديد) قبل أن يصبح شعار ( السودان الجديد) ماركة سياسية مسجلة لسنوات طويلة.
في انتباهاته العديدة أنتبه للتراث وأغاني الحماسة والشجاعة والكرم والمروءة والنجدة والمعاني الإنسانية التي لا تشيخ ولا تموت. غنى أغاني السيرة، والدلوكة، والدليب، وألم بإيقاعات السودان وموسيقاه، وغنى لديوان النعيم ودحمد الأصلوا ما بنسد، و”للجنزير في النجوم عقد الهيكل المنظوم ما بخاف، وإنت يا فرنيب جازم ما تجيب العيب، وإنت للضرس عرديب، ما ترا الجنزير سمح وخايل، والجنزير شرابه سموم”. واجاد بالفصحى وكان عصييّ الدمع مع أبى فراس الحمداني وليلة المولد سر كل الليالي مع محمد المهدى المجذوب وأبحر مع جندول على محمود. وابدع بالدراجي وغنى سعاد لعمر الطيب الدوش الممتلئ بالود، وتفاعل مع نهوض الطبقة الوسطى التي انضم لها في مروى وغنى لرموزها من أطباء ومعلمين ومهندسين وضباط، حينما كانت الطبقة الوسطى قلب الاستنارة النابض في ستينات وسبعينات القرن الماضي، قبل أن ترحل ماسوفا على شبابها وتفسح الطريق للطفيلين من كل شاكلة ولون، وتخلف حنينا واسى وفراغ واهتزاز في المدن، ومؤخرا انتشرت في وسائط التواصل الاجتماعي إحدى إبداعاته من الأغاني الشعبية عن (مدير الري) قبل أن تجف القنوات ويفقد الري ومديره قيمتهما، وقبل أن تجدب أرضنا الطيبة في أزمنة القحط وأعوام الرمادة (الضباط قاموا شبلوا زماموا، مدير الري المضت أيامو، الضباط قاموا عدلوا زمامو) ( أنا الجنيت طريت معشوقى، أبقى قمرية في ديارهم أقوقى) (يا زمُّالة بموت بى نارها، طرينا القومه ونسينا النومه، وللديوان أب علامتن دومة).
في عيدنا الأخير امتلأت عيوننا وفاضت بالأحزان في خطوط الطول والعرض في كامل بلادنا، أتى العيد ولم يكن بموقد الفقراء نار ولم يمر على بيوتهم التي نهشها الجوع الخليفة العادل عمر بن الخطاب حتى يحمل الى قدر امراءة ضربها العوز وهى تصدر أصوات فارغة من قدرها حتى ينام أطفالها حينما حمل عمر بن الخطاب ما يقيم أودهم، بل وشاركها في طبخ الطعام وحين اقام العدل نام قرير العين هانئها حتى صباح ابولؤلؤة المجوسى الذى أخطأ عنوان جريمته ولا يزال الفاروق يردد:”لو أستقبلت من أمرى ما إستدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء وقسمتها على الفقراء”، وهو يبصر بأوسع من إنسان العين مرمى، يرى ما خلف الجبل ( يا سارية الجبل).
من قبل أمضيت ما يقارب 50 عيداً بعيدا عن الأسرة والأهل والجيران والأصدقاء وأصوت الناس الذين نحبهم ولكنى لم احزن بقدر ما حزنت في عيدنا الأخير، لم تفارقني صور أطفال المناصير الفقراء من قرية “كبنة” التي من هول الحياة مات أهلها على قيد الحياة في عبارة سديدة للراحل نجيب سرور. أطفال المناصير لم يبتلعهم النيل، بل إبتلعهم الفقر والضياع والإهمال وهم هدية عجز الحاكمين الى مياه النيل ولو تحدث النيل لغضب وما قبل الهدية، فهو سليل الفراديس ونهر مقدس رسم قوس صلاحه على جبل البركل ولا يعرف الخيانة، والرد لم يكن بالسد بل بأطفال المناصير.
قبل أن يبتلع النيل الأطفال، إبتلعت الإنقاذ أراضي وقرى أهلهم في مشاريع هلامية لم تنتج زرع او تسمن ضرع أو كهرباء في أراضي صالحة من علامات صلاحها حاج الماحى في الكاسينجر. إيها إخواني الصغار الميتين، كم رجوت النيل أن يحنو عليكم والتراب وتعودوا الى الحياة ونغنى دون ذنب أو عتاب. طال صمتنا منذ حروب الجنوب والدم المسفوح في سبتمبر على شوارع في ضباب الإنتظار.
عشية يوم عيدنا الأخير (يوم الوقفة) وفى محطة القطارات بلندن إستقبلنى الصديق على عسكورى وهو من يستحق العزاء في الأطفال الراحلين من على ظهر مركبهم العتيق تاركين ذكريات الطفولة وأمانى المستقبل في قاع النهرالذى كم جاد بالعطاء لسكانه منذ أيام تهراقا فقد ظل كريما حتى اتى حكام بداية الألفية الثالثة في مفارقة لن يستطع المؤرخ أن يجد لها منطقاً وتفسيراً.
تحدثنا وعلى وعسكورى عن برنامج العيد وتلقيت بعض الرسائل من الأصدقاء ووجدت أننى للمرة الأولى لم تكن لى رغبة لزيارة أحد وقررت أن امضى صباح العيد وحيدا فاتصلت باكرا ذاك الصباح بالأسرة والأهل والأصدقاء مهنئا لهم، وأرسلت رسائل لعدد كبير من أصدقائي وتلقيت أخريات وجلست متأملا ما مضى وما سيأتي في مدن لا تحفل بأعيادنا ومليئة بالأحزان مثل الوجبات السريعة تلاحق أهلها صباح ومساء، وآخرين منهم ينثرون الفرح، وأرسلت رسالة عزاء مكتوبة لأهلنا المناصير صبيحة يوم العيد ، ومضى العيد و” الأشعريون” يوزعون صورهم في وسائط التواصل الاجتماعي في مباهاة وإذلال في شكل عيدية!
عشية العيد وصباحه طافت بخاطري صور الأستاذ عبد الكريم الكابلى وهو يمضى عيده على بعد آلاف الأميال من وطنه الذى أحبه وغنى له وأجد نفسى أحد الممتنين لما أتحفنا به من إبداع وسماوات شاهقات وقد أتاح لي الحظ لقائه في أكثر من مناسبة والاستماع اليه في مناسبات متفرقة، واستعدت أحاديث وصور تم نشرها له مؤخرا في الولايات المتحدة الأمريكية وبعضها في ميادين عامة، ورغم أن غالبية السودانيين في أمريكا احتفوا به، وأظهروا محبتهم وتقديرهم له، لكن قلة من المتطفلين لم يراعوا خصوصيته وخصوصية اسرته، وقد استمعت لاحد ردوده عن عائد مناسبة أقيمت له، وكان شفيفا عفيفا في توضيحه للحقائق وشعرت بالغضب من سلوك بعض الذين لا يشعرون بوخز الضمير.
الكابلى إنسان رفيع المقام ووطني من معدن نفيس يستحق منا الاهتمام والامتنان والتكريم، وإن لم يسعده البعض بفعلهم فليسعدوه بقولهم، وإن لم نكرم أمثاله فمن نكرم!
بلادنا اليوم طاردة لأمثاله لم توفر له الرعاية والعناية التي يستحق، ولكن بنات وأبناء وطننا في غالبيتهم يضعونه في حدقات العيون وسيصله دفء البلاد وهو على بعد آلاف الأميال، وهو إنسان امتلك بضاعة لو أراد بيعها في مزادات النفاق لعادت عليه بثروات مادية طائلة، ولكنه لم يغن لقهر الشعب وسار في طرق أوصلته لضفاف الشعب فتمسك بالإبداع والوطنية على طريقته الخاصة وهو مبدع فرد يشكل أغلبية، وقد ظل يبث الليل اسرار الهوى ويصوغ الصبح زوقا بابليا.
عبد الكريم الكابلى متحدث لبق ذو صوت مترع بالدفء والإبداع ويجيد الحديث بالعربية والإنجليزية وإستخدم مواهبه لنشر الثقافة السودانية في حله وترحاله وكان وفيا لبلاده ولزملائه الكبار ومن سبقه من مبدعين وجسد ذلك مليئا حينما أعاد التغني بأغاني إستاذه القامة السامقة حسن عطية (أبوعلى) وأعاده الى آذان الشباب وصخب الحياة.
نحن نحتاج لإعادة نظر في اهتمامنا بكثير من المبدعين والعلماء والوطنيين الكبار بعد ان ترجلت الدولة عن مهامها وافسحت مكانها للصوص، وعلينا ان ننظر فى كيفية القيام بعمل شعبي للاهتمام والعناية بهم وقت حوجتهم الماسة فإن بعض الصور التي ظهرت في السنوات الأخيرة عن مبدعين في مختلف ضروب الحياة تشكل إدانة للضمير الوطني وكثيرين ممن استحقوا الاهتمام لم يجدوه ومن ضمنها صورة البروفسير محمد هاشم عوض في أيامه الأخيرة و حمدى بدري الدين وعبد الدافع عثمان، وعز الدين عثمان ممن كانت لهم مساهمات ثرة في مختلف المواقع ولقد كانت صورة كابتن المحينة أول كابتن للفريق القومي، صادمة لكل ذي ضمير حيي.
انتهى العيد، ومن وحي أحزانه أتت هذه الخاطرة ولأطفال السودان أقول إن أعيادنا القادمة ستكون حبلى بالجديد وبالماء النقي وبالدواء وبالحليب وإن النيل سيحنو علينا جميعا وردا وزهرا وكهرباء وحقولا وقمحا. ومن على البعد أرسل باقة من أزهار الحب والمودة والتقدير والأماني الطيبات لأستاذنا عبد الكريم الكابلي وأقول له إن تكن أنت بعيد فحب الناس لك يرتاد الثريا.