كتائب الظل تتمدد!          

0 67

كتب: فايز الشيخ السليك

.

 اذا كان علي عثمان طه، تحدث عن ( كتائب الظل) بغرض تهديد الثوار خلال مظاهرات ثورة ديسمبر المجيدة؛ فثمة كتائب أخرى لا تقل خطراً عن تلك التي توعد بها طه، الثوار، وتكمن خطورة الكتائب التي أود التحدث عنها هنا أنها تتشكل، وتتمدد داخل المجتمع مثلما تتمدد خلايا السرطان أجارنا الله منه، والأخطر من ذلك أنَّ ملايين السودانيين أعضاء في تشكيلاتها غير النظامية.

يشارك كثيرون في هذه الكتائب بوعٍيٍ أو غير وعيٍ منهم/ن يومياً ، بل يقدمون لها الدعم السخي بعلم السلطات أو جهلها، ويغذون نموها، فتكبر في دواخلنا جميعاً حتى نصل مرحلة قبولها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.

بدأت ملامح هذه الكتائب تتشكل وتزدهر وتنتشر بسرعة خلال سنوات النظام المباد، وإن كانت سبقته منذ أيام جعفر النميري، حين غرسنا غرسها بسبب ضعف الإنتاج، عدم الاهتمام باستغلال الموارد الطبيعية الضخمة التي ينعم بها السودان، إلا أن تسعينات القرن الماضي شهدت بروز

أنشطة مثل غسيل الأموال والاتجار في المخدرات والسمسرة بدايةً لـ ( دولرة ) كل النشاطات غير المنتجة، ولا يحتاج الأمر الى حصول مباشر على العملة الأمريكية ، إلا أن العملة تظل موجودة في رمزيتها ، وتكون بائنة في عمليات تحويل الأنشطة المدمرة إلى سلع أبرزها العقارات.

وسط كل هذه الجوقة تنشط حركة ( السماسرة) الذين لا يحملون أسماء مسجلة، ولا علاقة لهم بالدولة. نعم هذه هي كتائب الظل، أو ما يسمونه علمياً (بالاقتصاد الموازي) وهو اقتصاد ظل يعمل خارج مظلة الدولة، وبعيداً عن مواقع الإنتاج، وينتشر في أسواق دول العالم الثالث التي تفتقر الى السياسات الاقتصادية السلمية والتخطيط العلمي الدقيق

بحثتُ عن معلومات دقيقة لمعرفة حجم عمليات غسيل الأموال، إلا أنني لم اتحصل على معلومات دقيقة، أو جديدة فلجأتُ إلى معلومات قديمة منذ ست سنوات، فقد نشرت صحيفة ” الشرق الأوسط” اللندنية تقريراً عن غسل الأموال في السودان، وأشارت إلى 130 حالة اشتباه أبلغ عنها بواسطة المصارف ومواطنين، وصدرت في بعضها أحكام قضائية.، حسب ما جاء في الصحيفة في عدد ٢٢ ديسمبر ٢٠١٦. وأشارت اإلى أن هؤلاء “يشترون ويضاربون بأموال ضخمة، في السلع الكمالية والذهب والأراضي والعملات الأجنبية، للابتعاد عن المصارف والبنوك، حتى لا يقعوا تحت طائلة القانون، ويتخذ البعض منهم واجهات، مثل معارض السيارات والمكاتب التجارية الفخمة”.

قبل أيام، علمتُ أن أحد أصاب العقارات يعرض شقةً للبيع تبلغ مساحتها ( ٤٠٠) متراً بسعر ( ٤٠٠ ألف ) دولار أمريكي. نعم نتعامل بالدولار قبل تحريره، وحين يتم تحريره ترتفع أصوات الغضب! في وقت يحسب فيه بائع البيض سعر سلعته بما يوازي سعر الدولار في الخرطوم، المدينة التي تفتقر لأهم ضروريات حياة المدن مثل الطرق المياه والطرق المرصوفة والغاز ، ولا نقول المكتبات ودور الثقافة والسينما والمسرح والمكتبات وأماكن الترفيه.

هل تعلم يا عزيزي، ويا عزيزتي أن أسعار العقارات بيعاُ وشراءً في العاصمة الخرطوم، تناطح أحياناً أسعار شققٍ سكنية في أحياء أمريكية مثل بروكلين، برونكس، بولاية نيويورك، ولا نقول حي مانهاتن، حيث بورصة الأسواق العالمية وول استريت؟ وهل تعلم أن سعر المتر الواحد في الخرطوم، في مناطق مثل الرياض والمنشية يساوي ألف دولار ؟. أي ( ٤٥٠ ألف) جنيه بالجديد. اما فوضى الإيجارات فحدث ولا حرج، فهي فوق طاقة الاغلبية بما فيهم أصحاب الوظائف العليا في وقت يشترط فيه بعض أصحاب العقارات الدفع بالدولار، أو يقيس لك القيمة به ليتم الدفع شهريا وفقا لارتفاع سعر العملة الأجنبية.

 

اجتهد أفراد الكتائب المعنية في جعل العقارات سلعةً للمضاربة جنباً إلى جنب مع أسواق العملات والذهب لتنخفض العملة الوطنية مع ضعف القطاعات الانتاجية وقلة الصادر والتحويلات الخارجية، وأصبحت الأرض مخزناً لحفظ الأموال، بدلاً عن التعامل معها كسلعة تجارية خدمية؛ عن طريق شركات استثمارية ضخمة تعمل في أسواق العقارات بشراء أراضي سكنية بغرض بنائها وتعميرها وتسويقها في الأسواق، فتساهم في حل مشاكل السكن مثلما تفعل الشركات العقارية في كل العالم، كما ترتبط حركة الاستمارات بخلق فرص للعمل لمئات الألاف من العمال والحرفيين والموظفين لارتباط أسواق العقارات بعشرات الأنشطة التجارية .

وأشير هنا إلى دولة مثل مصر القريبة مننا، حيث تستحوذ شركات القطاع العقاري على استثمارات بقيمة ( ٢٠٠ مليار ) جنيه مصر – أكثر من ١٣ مليار دولار وتعادل نسبة ( ٢٠٪) من حجم الاقتصاد الكلي، وفق ما نشرته صحيفة ” المصري اليوم” في عدد يوم الأحد الموافق ٢٠ يونيو ٢٠٢١.

ليست العقارات وحدها، بل ينتظر كثيرون منا لحظات مناسبة للاصطياد في مياه الفوضى، فبائع الطعام يخلص ثمن ايجار بيته من الشاري، وبائع الفواكه ينتظر صاحب البيت الذي لا يقبل إيجاراً إلا بالدولار، أو ما يوازيه في أحسن الأحوال، وهناك المضاربون في الوقود، من ينتظرون حلول الأزمات لييستثمروا في الصفوف وسوء الظروف.

وينتظر سائقو سيارات الأجرة ساعات المحنة وأوقات الحاجة كي يزيدوا ثمن النقل اضعافا وبلا تذاكر، ودون حسابات بالكيلو أو بالدقيقة مثلما تفعل كل سيارات الترحيل في العالم حيث يتم حساب ثمن الرحلة بأحدث التطبيقات الحديثة بفضل فتوحات التكنلوجيا.

يرى الاقتصادي الدكتور عبد الوهاب بوب، في حديث لسكاي نيوز عربية إن المتتبع للأداء الاقتصادي في مرحلة ما بعد الثورة يلاحظ عدم وجود أي نوع من التغيير، بل كانت هناك زيادة غير مسبوقة في حجم الكتلة النقدية تقدر بنحو 30% في خلال هذه الفترة الوجيزة من الحكم الانتقالي، كما أن هناك أخطاء فادحة عجلت بهذا الانهيار غير المسبوق، ومنها الزيادة المخيفة في المرتبات والتي لم تعتمد على موارد حقيقية بل عملة ورقية.

ويعزي بوب، تفاقم الأزمة الاقتصادية إلى “الخلل الواضح في السياسة المالية والتي أدت إلى تدهور أداء القطاعات الاقتصادية الإنتاجية”، وهذا ما يفسر وجود تلك الكتائب العاطلة عن الإنتاج، المعتمدة على النشاط الطفيلي سريع العائد، قليل المخاطر.

لا تتوقف حركة الاقتصاد الموازي، أو اقتصاد الظل، أو الخفي، عند حدود النشاط العقاري الطفيلي، بل تتسع دائرته باعتباره دون أن تعرف الأجهزة الرسمية قيمته الفعلية، وتتمدد هذه الفوضى وتغذي معها عملية نمو صفات سلبية مثل الطمع والأنانية واللامبالاة مع غياب الرقابة الحكومية.

يمثل اقتصاد الظل أحد علامات التدهور الاقتصادي، والخلل الهيكلي في بنية الاقتصاد الكلي،.

وفيما يرى استاذ السياسات العامة في الجامعات الأميركية، بكري الجاك، “أن حكومة الثورة ورثت اقتصادا يعيش اختلالات هيكلية وبنيوية وحالة كساد وتضخم انفجاري، إضافة إلى فساد مؤسسي ضارب، لكنها لم تتخذ الخطوات اللازمة لمواجهة تلك الاختلالات”، إلا أن كثير من الاختلالات مربوطة بنا كمواطنين، ومع التأكيد على دور الحكومات المتعاقبة في هذا التدهور، إلا أننا نظل جزءً من هذه الأزمة المرتبطة ارتباطاً مباشراً بعقلنا الجمعي الذي لا يفكر في العام، ولا يرى إلا ما يحقق الفائدة القريبة، ولا يمكن فصل هذه الرؤية أو عزلها عن ما ذكرته في المقالين السابقين عن سرقة اغطية المنهولات، وقضبان السكة حديد، ومحولات الكهرباء، والخطاب السياسي المرتكز على تقسيمات “نحن وهم”.

يتواطأ كثير من المواطنين مع هذا الواقع، ويتعايشون معه مثلما يتعايش كائن حي مع بيئة نتنة تألف أنفه رائحتها بالتكرار ومرور الوقت فتصير أمراً طبيعياً، وتضم دائرة اقتصاد الظل الرشاوي التي تدفع للموظفين لتقديم خدمات غير مستحقة، أو حتى أداء واجبات وظيفية، إلا أنهم لا يتحركون إلا بعد استلام ” حق الفطور” أو ” مسح الشنب” مثلما يطلق البعض عليها، و مع التعود يتلقى الموظف العام ” الرشوة” كأنها حق منصوص عليه قانونياً، ولا أعني هنا أن جميع الموظفين وأن كل رجال الشرطة مرتشون، إلا أن الفقر وتدهور الاقتصاد وغياب الضمير والمسؤولية جعلت التعامل مع هذه المسائل أشبه بشراب ماءٍ بارد في نهارٍ ساخن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.