كلنا في الهم شرق!

0 67

كتب: د. الشفيع خضر سعيد 

.

يبدو أن مقالاتنا عن شرق السودان، أثارت شجونا وذكريات مبهجة عند الصديق والنطاسي الأريب دكتور محمد عبد الله سوارابي، فأتحفنا برسالة إبتدرها بأننا كلنا في الهم شرق! ويقول فيها، أن مركز البجا، وعاصمته أروما، كان أكبر مركز إداري في السودان، وأن والده، رحمة الله عليه، كان أول مفتش للمركز، ورفع فيه مع الناظر ترك الكبير علم السودان يوم إستقلاله. ورغم أن الوظيفة الحكومية فرضت على والده التنقل في عدة مدن، إلا أن أهل المنطقة طالبوا بعودته، لثقتهم في حكمته وقدراته الإدارية في حل المشاكل.
وفي تلك الفترة تعرّف الصبي سوارابي على المناضل الفذ الجزولي سعيد، صاحب المكتبة التي كانت تقدم الوعي والمعرفة الممزوجة بالفكر الاشتراكي إلى سكان المنطقة، والذي أصبح لاحقا أحد القامات السامقة في معارك النضال من أجل الديمقراطية والتقدم، منحازا إلى الكادحين والمهمشين. ويصف الدكتور سوارابي البداوة غير المستقرة بأنها أدنى درجات المجتمع، وأن الإنكليز حين غادروا السودان كتبوا أن 80 إلى 85 في المئة من سكانه بدو رحّل، وأن شرق السودان، يعاني أيضا فقرا وجوعا وجهلا لا ترى مثله فى أكثر مناطق العالم تخلفا، ومع ذلك فإن إنسان الشرق يحمل تاريخا ثرا، لكن أغلب المثقفين والسياسيين السودانيين القادمين من مناطق الزراعة المستقرة حول النيل أو المدينة، لا يسبرون غور هذا التاريخ، فيسقطون مفاهيمهم باسترخاء على الشرق وإنسانه، لذلك، وللأسف، غالبا ما تأتي إستنتاجاتهم، غير دقيقة.
وفي إشارة إلى هبباي مدينة طوكر، يسطّر الدكتور سواربي مفارقة مشحونة بالجماليات، فيقول «في أروما كانت تدفننا الرمال والهبوب لعدة أيام، ثم يهجم علينا فيضان نهر القاش فيزيل ربع المدينة، ولعل هذا المناخ لعب دورا في إصابة إنسان الشرق باليأس والسخرية من حاله». فعلا، يحتاج شرق السودان، جغرافية وديموغرافية وتاريخ، أن يُعالج كحالة متفردة. ومن نواحي هذا التفرد، الصوفية، وخاصة الطريقة الختمية، والتي تلعب دورا مهما لربط لُحمة مجتمع الشرق. وفي الحقيقة، ربما لا يوجد خيط آخر مثل الختمية نجح في ربط أهل المنطقة ببعضهم البعض وبباقي السودان. وينبهنا سوارابي بألا ننسى القوى العالمية الطامعة فى إنتزاع الشرق واستغلاله، بسبب موقعه الإستراتيجي والجيوسياسي، ولما به من ثروات عظيمة، معظمها لم يُكتشف بعد.
وختم الدكتور سوارابي رسالته بمقتطف من مقال لأمجد شيقا النارابي يتحدث فيه عن ذكرى مجزرة النارا، وهي المنطقة الحدودية بجنوب شرق السودان ومنخفضات القاش وبركة، وكان عليها آنذاك الأمير شيخ أري توتيل، والتي تعرضت إلى تطهير عرقي من قبل جيش الحبشة بقيادة رأس ألولا في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1886.

وإستكمالا لحديث الدكتور سوارابي، إرتأينا ضرورة الإشارة إلى دور الإدارة الأهلية، وما تقوم به النظارات والمشايخ والعمد من دور هام في رتق النسيج الإجتماعي في شرق السودان ولصالح إنسانه، رغم ما تعرضت له من محاولات التشويه والإستغلال السياسي، من قبل سلطات المركز، خاصة نظام الإنقاذ. كتب البروفسر أحمد إبراهيم أبوشوك معرفا الإدارة الأهلية بأنها تعني «إصطلاحاً المؤسسات القبلية التي توارثتها الجماعات الأفريقية وطورها الساسة البريطانيون إلى أجهزة محلية تنظم نشاطات الأفراد والمجموعات القبلية، وتعمل على بسط الأمن والاستقرار وحماية البيئة المحلية إجتماعياً واقتصادياً وفق التقاليد والأعراف والموروثات، وهي تستمد قوتها من السلطة المركزية الحاكمة تخويلاً أو تفويضاً».
والأمر هنا لا يتعلق فقط ببروز الإدارة الأهلية كنظام بديل للتحول إلى الحكم غير المباشر، وإنما يتعلق أيضا بتاريخها المشهود والمُثنى عليه، والذي تجلى في الإرث الذى خلفته القيادات القبلية المتميزة بأدائها الإداري والمالي والقضائي، وبإسهامها فى حل مشكلات المواطنين المتعدده على المستوى المحلي، وبقبولها كوسيط بين الأطراف المتنازعة والمتحاربة، لإلمامها بالأعراف والعادات والتقاليد، ولما تحظى به من حكمة ومن إحترام وتقدير يصل حد المهابة من قبل أعضاء القبيلة. والإدارة الأهلية في شرق السودان، كما هو حالها في كل البلد، تعمل على حل المنازعات، بمختلف أنواعها، من خلال جلسات التحكيم الأهلية، والتي يعترف بها القضاء السوداني، ويستند إليها في إصدار الأحكام المتعلقة بالنزاعات المحلية. كما أن القوانين المستمدة من الأعراف المحلية تُعتبر من مصادر التشريع في السودان.
والمحاكم وجلسات التحكيم الأهلية، كالجودية في غرب السودان والقلد في شرقه، تحتكم إلى قوانين وأعراف ومناهج عمل خاصة بها، غير مكتوبة لكنها راسخة ومتجذرة ومتوارثة في واقع المجتمع الأهلي في السودان، وتُعطي الإدارة الأهلية قيمة مضافة هامة. والقلد في شرق السودان، ينقسم إلي مرحلتين، الأولى أشبه بالهدنة ووقف العدائيات، وهي عبارة عن التزام تحت القسم بين الطرفين المتنازعين بألا يعتدي أحدهما على الآخر، ويلتزم الموقّع على المحضر، وهو دائما من زعامات الإدارة الأهلية، بمعاقبة من يخرق الإتفاق أو إحضاره للشرطة لمعاقبته.
وهذه المرحلة تستمر فترة زمنية محددة يتوافق عليها الطرفان، وتستغل في المشاورات والتحضير لمرحلة الإتفاق النهائي، والذي يمكن أن يتحول إلى وثيقة قانونية في المحكمة المختصة. وهناك طرفة مشهورة حول القلد، حدثت في خمسينيات القرن الماضي، يحكيها أهلنا البجا، تقول إن الثعلب كان قد اعتاد على أكل أغنام زعيم القبيلة العمدة دربكاتي، من دون الأغنام الأخرى. ووصل الغضب الشديد بالعمدة حدا دفعه للمطالبة بتقفي أثر الثعلب وإحضاره حياً، فتم ذلك ووُضع الثعلب داخل قفص، واجتمعت القبيلة لترى ما هو فاعل زعيمها بالثعلب.
نهض العمدة دربكاتي، وخاطب قومه قائلا: «يا قوم..، هذا الثعلب أسير بيننا لا حول له ولا قوة، ولو وجهنا له تهمة فلن يستطيع الدفاع عن نفسه. لذلك نحن نطلب منه ونستحلفه، إذا كان يسمعنا، أو لا يسمعنا، بألا يأكل من أغنامنا»..! وأمر بإطلاق سراح الثعلب! وحسب الرواية، من يومها لم يأكل الثعلب من أغنام العمدة دربكاتي!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.