كنت منشدا ختميا ثم “خلعت”

0 86
كتب: جعفر عباس
.
كصبي كنت عضوا في فرقة شباب الختمية، وكنا نردد أناشيد الطائفة ونسير في طوابير منتظمة وكان ذلك يعود علينا ببعض الفتة، لأن بعض الختمية الملتزمين كانوا يرحبون بنا، وكانت هناك فرقة انشاد ختمية أيضا لشباب فوق ال15 وكان هؤلاء ينعمون بأطعمة افضل مما كنا نناله، وذات مرة كانت تلك الفرقة قد ختمت الانشاد وجلس افرادها لتناول الطعام الذي قدمه لهم الشخص الذي يحمل لقب “خليفة”، وانحشر بينهم شخص لم يكن من المنشدين فصاح فيه ف ع “سمتين هاجيا نان ادق اوس” يعني دا شغل عرقنا طلع ايد و”أخلع”
في تلك المرحلة كان فناني المفضل عبد العزيز عبد الكريم (شرقاوي) وكان ذا صوت جميل للغاية ومتخصصا في أناشيد الختمية، وكنت أحرص على الذهاب الى أي مناسبة ينشد فيها الرجل للاستمتاع بصوته، وللختمية أناشيد غاية في الرقة والميلودية تعتمد على حلاوة الصوت والأداء الكورالي (الجماعي) فهم لا يستخدمون الطبول ومعظم انشادهم يكون جلوسا، وكنا نختم الانشاد بالدعاء: وعم آل الميرغني بالمغفرة في هذه الدار ودار الآخرة ثم نردم خصوم الختمية: واشغل أعداي بأنفسهم وابليهم ربي بالمرج.
ثم جاء قريبي شيخ موسى أكليش بأول راديو في حلتنا (كان والده سيد شيخ موسى يعرف بعض العربية ولو سأله احدهم لماذا فعلت كذا وكذا يقول: نعمل ايه أكل عيش، ولأن حرف العين يسبب للنوبي رجلا كان ام امرأة تضخم البروستات فقد صارت عبارة اكل عيش “أكليش” وصارت لقبا للعائلة، أما إذا طلبت من نوبي ان يقول “حجر العسل” فسيكون ذلك بمثابة شروع في قتله لأن اجتماع الحاء والعين في جملة واحدة يسبب الجلطة للنوبي)، وكنا نستمع للراديو من وراء السور، ومن هناك عرفنا أغاني احمد المصطفى والكاشف ونردد: هياتي هياتي أهبك أنتي كهبي لساتي (وفاز ساتي بحبنا لان الأغنية تقول “كحبي لذاتي” وحرفي الذال والزاي يسببان البواسير للنوبي فيتم تحويله الى سين طلبا للسلامة)، وكتبت من قبل عن قريبي الذي كان معجبا بأغنية احمد المصطفى “قربو حنن وبعدو يجنن الهين ولين” فيجعلها “بور بور هنن بور بور يجنن هيا مليِّن” (وكأنه يعمل ترويجا لعلاج للإمساك: ملين).
ثم ظهر إبراهيم عوض وقلب الدنيا بأغنيات جديدة أشهرها “حبيبي جنني وغير حالي”، ولكن أبي اصدر مرسوما دستوريا بتحريم الاستماع لابراهيم عوض باعتبار ان اغنياته تفسد الأخلاق، وكي يضمن نفورنا منه قال انه شايقي وشيوعي، فصرت في سري معجبا بالشايقية والشيوعيين باعتبار انهم قبيلتان تتميزان بالصوت الجميل وتنتجان أغنيات حلوة (حكى الصديق د. عبد اللطيف البوني ان والده أيضا منع الاستماع الى إبراهيم عوض).
ثم ظهر وردي وصار النفور من المطرب الشايقي عثمان حسين واجبا وطنيا، وأذكر ان حسن عبد المجيد من أبناء كرمة البلد كان شديد الاعجاب بعثمان حسين ويعتبره الآخرون خارجا عن الملة، فقد كان افتخارنا بوردي النوبي عاليا وكان شبه محرم حتى الاعجاب بالمطربين غير الشايقية أمثال أبو داوود وحسن عطية، ولكن سرعان ما امتلأت الساحة بمطربين مبدعين: ابن البادية وصلاح مصطفى وغيرهما فصار مسموحا الاعجاب “على خفيف” بغير وردي، وبالمناسبة فقد كان أهلنا يحسبون السودان “بلدا مجاورا” ويقولون مثلا عن الذي انتقال الى عطبرة او الخرطوم انه ذهب الى السودان.
إعجابي بالعبقري الموسيقي وردي ازداد على مر السنين ولكن أذني صارت ديمقراطية بدرجة انه لم يعد هناك عندي فنان مفضل لأنني فتحت أذني لكل ما هو جميل موسيقيا والغريب في الأمر انني صرت وما زلت شديد التعصب للفن الموسيقي الشايقي وسبحان الله ربطتني المقادير بعلاقة ود قوية بالمطرب الفذ محمد كرم الله، واليوم انا شديد الاعجاب بمحمد النصري، وصرت منذ المرحلة الجامعية قتيل هوى كردفان أحب أهلها وموسيقاها وجمال الطبيعة فيها وكنت أعشق قضاء الخريف في الأبيض ومنها انطط الى الرهد وتندلتي وبارا ثم اركب الكركابة واتدلى في ام روابة حيث الحسناء التي جننتني وجننت العزابةوجار الزمن على فننا الغنائي حتى وصلنا مرحلة حمادة بت وعشة الجبل وعلي كبك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.