لا مركزة مشروع الجزيرة
كتب: د. النور حمد
لعل من أبدع ما أنجزه البريطانيون في مستعمراتهم، هذا المشروع المسمى، مشروع الجزيرة. ويكفي في تفرد هذا المشروع نيله لقب “أكبر مزرعة مروية ريا انسيابيًا في العالم”. الترعة الرئيسية التي تسقي أراضي هذا المشروع يتعدى طولها مئتي كيلومترا. أما شبكة القنوات المتفرعة من ترعته الرئيسية، ومن ترعة المناقل فتقارب خمسة ألف من الكيلومترات. كان هدف البريطانيين من إنشاء المشروع هو أخذ قطنه إلى مصانعهم للأقمشة. لذلك، يمكن القول إن أي تحسن أصاب حياة المزارعين في الجزيرة، إنما جاء بصورة عرضية، لا غير. علة هذا المشروع هي إدارته السودانية التي سارت به على درب الإدارة البريطانية، حذو النعل. فهي لم تدرك أن هدفها ينبغي أن يختلف عن هدف البريطانيين. بل ينبغي أن يكون نقيضا له. فالبريطانيون لم يهدفوا بالمشروع إلى إحداث تنمية شاملة، وإنما لأخذ ناتجه الخام إلى إنجلترا، عبر علاقة عمل أقرب ما تكون إلى القطاع. ذهب البريطانيون وأصبحت إدارة المشروع السودانية، هي الإقطاعي الجديد. وبقيت نفس الذهنية التي لم تعامل المزارعين إلا بوصفهم عبيد أرض.
أيضا، مما ورثته الإدارة السودانية، نهج المركزية الشديدة التي جعلت من المزارع “عبدًا للمأمور”، سالبة ًمنه شعوره بامتلاك ما يقوم به من جهد، واحساسه بأنه شريك. يضاف إلى ذلك، نزعت منه التراتبية البيروقراطية الإدارية المتسلسلة؛ من مدير المشروع مرورًا بمدير القسم والمفتشين الزراعيين، انتهاءً بالصمد، حق إبداء الرأي، وحق القرار. ليس عمليًا إدارة مزرعة مساحتها مئات الآلاف من الأفدنة، من مركز واحد. وليس مفيدًا أن تكون كل التفاتيش نسخًا من بعضها. لم تتفتق عقول السودانيين، الذين أداروا وزارة الزراعة، وأداروا مشروع الجزيرة، عن أي خطة للخروج عن هذا الأنموذج البريطاني.
لقد آن الأوان، فيما أرى، أن نعيد النظر في هيكلية مشروع الجزيرة. وأقترح أن نفكر في فك القبضة المركزية، التي كان يدار بها، بحيث يصبح كل تفتيش وحدةً قائمةً بذاتها. وحدة لها إدارتها المستقلة، وخطتها المستقلة، المتعلقة بالمحاصيل التي تزرعها؛ من حبوب وألياف وخضروات، وفواكه، وغيرها. وكذلك أنواع الحيوانات التي تستثمر فيها. باختصار، أن تكون لها خطتها، الخاصة بها، لتطوير الإنتاج الزراعي والحيواني، إضافةً إلى تطوير البنى التحتية والخدمات الاجتماعية. يضاف إلى ذلك إنشاء الوحدات المعينة، كالوحدة الميكانيكية المستقلة، من آلات حفر وإزاحة تربة وتراكتورات حرث وحاصدات، واختصاصي مبيدات وأسمدة، وما إلى ذلك. ولسوف يمنح تفتيت المركزية القديمة مزارعي كل تفتيش أن ينتخبوا مجلس إدارتهم من بينهم، وأن يوظفوا ما يحتاجون اليه من فنيين كالزراعيين والمهندسين، وغير ذلك من فريق الطاقم الإداري، مستعينين في كل أولئك، بخريجي الجامعات. نهج تمليك المواطنين مسؤولية تنمية مناطقهم، وإدارتها على نسق العمل التعاوني، هو الذي سوف يخرجنا من قبضة التركة الاستعمارية المكبلة.