لماذا كان معاوية نور خطراً علي الإستعمار ؟

0 61

كتب: تاج السر عثمان بابو 

.

1

أشرت في مقال سابق عن الذكري الثمانين لرحيل معاوية محمد نور ( 1909- 1941) الي أن اهتمامي به يرجع الي منتصف سبعينيات القرن الماضي حيث كنت متابعا الدراسات التي كتبت عنه وأعماله التي جمعها الأستاذ رشيد عثمان خالد والتي صدرت في كتابين بعنوان (دراسات في الأدب والنقد)، (وقصص وخواطر) وقامت بنشرهما دار جامعة الخرطوم للنشر. وكانت حصيلة تلك المتابعة أن أنجزت كتابا عن معاوية، تناولت جوانب حياته واعماله المتنوعة ومعاناته في ظل الاستعمار البريطاني وتضحيته بدراسة الطب ليدرس الأدب في جامعة بيروت وكتاباته الداوية والمثيرة للاهتمام في الصحف المصرية، ومحاربة الانجليز الشرسة له، حتي وصل لحالة مرضه المعروفة في السنوات الأخيرة من حياته القصيرة المليئة بالابداع والنشاط الفكري، حيث فارق دنيانا وهو في بداية الثلاثينيات من عمره، وكيف تم اغتيال ذلك النبوغ المبكروتلك الشعلة الوطنية الوقادة.

بعد أن تطرقنا في المقال السابق عن الذكري الثمانين لرحيل معاوية لكتاباته الأدبية والفلسفية ، نتابع هذا المقال الاجابة علي السؤال لماذا كان معاوية محمد نور خطرا علي الاستعمار البريطاني في السودان؟..

معلوم أن معاوية كان ناقدا أدبيا لا يشق له غبار وذو اطلاع غزير علي الأدب العربي واليوناني والفرنسي والالماني، وقاصا متميزا كما أشار مختار عجوبة معاوية نور “أول من كتب قصة قصيرة مكتملة من الناحية الفنية” كما في قصصه: ابن عمه، ايمان، في القطار، المكان، الموت والقصر.

وكان صحفيا كتب في مجلات وصحف مثل : الفجر التي اصدرها عرفات محمد عبد الله، والصحف المصرية مثل: السياسة الاسبوعية، مصر ، الجهاد ، المقتطف، .الخ ، وكان مترجما، واستطاع أن يربط الأدب والفن بالحياة، وطرح ضرورة احياء الآداب والفنون القومية ، واخراجها من المحلية الي العالمية، بعد تمثل خصائص وهوية امته االشعورية والفكرية.

 

2

كُتب الكثير عن معاوية نور ، اضافة لأعماله التي جمعها رشيد عثمان خالد التي صدرت في كتابين ( دراسات في الأدب والنقد ) ، و( قصص وخواطر) ، الذين صدرا عن دار جامعة الخرطوم للنشر، صدرت عنه الكتب الآتية علي سبيل المثال لا الحصر :

– كتاب مجلة الدوحة العدد (129) ، يوليو 2018 بعنوان : معاوية محمد نور- بين ثقافتين ” الذي جمع مقالات وقصص قصيرة كتبها معاوية محمد نور.

– ادوارد عطية في كتابه : عربي يحكي قصته ، 1946 (بالانجليزي) الذي أشار فيه الي معاوية نور الذي كان تلميذا له بكلية غردون ، وقد ربطت بينهما اواصر الصداقة ، علما بأن ادوارد عطية كان رئيسا لقلم المخابرات أبان الحكم البريطاني ، أشار فيه الي سيرة معاوية نور ، وما لاقاه من حرمان وعنت وتعذيب في حياته.

وقد قام الأستاذ سيف الدين عبد الحميد بعمل ترجمة له سائغة، وفي طباعة أنيقة ( انظر ، سيف الدين عبد الحميد ( ترجمة) : عربي يحكي قصته ، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة ،الطبعة الأولي 2006).

– السني بانقا : معاوية نور ، مركز عبد الكريم ميرغني ، اكتوبر 2006.

– معاوية محمد نور : الأعمال الأدبية لمعاوبة محمد نور، دار الخرطوم للطباعة والنشر والتوزيع 1994.

هذا اضافة لدراسات ومقالات كُتبت عن معاوية نور مثل: عبد العزيز حسين الصاوي : مئوية معاوية محمد نور ، صحيفة الأحداث ، 23 / 12/ 2008 ، وعلي المك : معاوية محمد نور : الأديب العبقري وأحد رموز النقد الأدبي ، تاج السر عثمان : معاوية نور 1909- 1941 : من كتاباته الفلسفية ، الحوار المتمدن، 28 /3/ 2017، . الخ من المؤلفات والدراسات والمقالات.

قال عنه عباس محمود العقاد الذي كانت له معه روابط أدبية وصلة حميمة وروحية عميقة “لو عاش معاوية لكان نجما مغردا في عالم الفكر العربي” ، ورثاه في قصيدتة التي ارسلها لحفل التأبين الذي أُقيم له في نادي الخريجين عام 1941 التي جاء فيها:

أجل هذه ذكري الشهيد معاوية

فيالك من ذكرى علي النفس قاسية

أجل هذه ذكراه لا يوم عرسه

ولا يوم تكريم ودنياه باقية

 

الي أن يقول:

بكائي عليه من فؤاد مفجع

ومن مقلة ما شوهدت قط باكية

بكائي علي ذلك الشباب الذي ذوي

وأغصانه تختال في الروض نامية.

 

3

بعد ذلك نحاول أن نجيب علي السؤال موضوع هذا المقال ، لماذا كان معاوية نور خطرا علي الاستعمار؟

كان معاوية نور وطنيا وثائرا و ناقدا للسياسة الاستعمارية في البلاد ، لذا اعتبره الاستعمار خطرا عليه ، ويمكن أن يؤثر علي الجيل الصاعد من المتعلمين والمثقفين ، فلذا ضيقوا عليه في الرزق وحرموه من العمل الحكومى رغم أنه كان مؤهلا ، فقد هاجم معاوية محمد نور الاستعمار بنظرة متقدمة نفذ الي جوهر الاستعمار باعتباره ظاهرة اقتصادية ، وأداة لنهب ثروات الشعوب لا لتعميرها حسب ما يدعي، كما جاء في مقاله في ” المقتطف” المصرية في أبريل عام 1934 الذي اوضح فيه أن أن للاستعمار مساوئه وأثاره المدمرة لشعوب المستعمرات ، وله أهداف اقتصادية وصناعية.

كما هاجم مؤسسات الاستعمار التي قامت علي سياسة ” فرّق تسد” ، وكتب مقالا في جريدة ” الجهاد” في فبراير 1933 بعنوان ” الإدارة الأهلية ” الذي انتقد فيه أهداف الادارة البريطانية منها التي رمت لابعاد الخريجين عن الإدارة ، والتضييق عليهم ، وتنبأ بفشل الإدارة الأهلية، وانتقد عيوبها التي تقوم علي الرشوة وتقديم المصالح الخاصة علي العامة، ورد بسخرية علي ادعاء الانجليز بحكم السودانيين لأنفسهم عن طريق الإدارة الأهلية بقوله ” اذا كان السودان يحكم نفسه بنفسه عن طريق رؤساء القبائل ، كما يقولون ، واذا كانت الإدارة ملقاة علي عاتقهم ، فبماذا يبررون وجودهم في تلك البلاد؟!!”.

كان الاستعمار قد شدد حصاره علي الخريجين ، وخاصة بعد دورهم الكبير في ثورة 1924 ، ودق اسفين بين الخريجين ورجال الإدارة الأهلية بهدف تعميق الانقسام في المجتمع السوداني ، وكذلك تعميق الصراع الطائفي بانقسام المجتمع الي طائفتي الانصار والختمية، والتنمية غير المتوازنة بين أقاليم السودان بادخال قانون المناطق المقفولة لجنوب السودان وجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق والشرق ودارفور ، مما خلق مشكلة الجنوب بعد الاستقلال وغيرها من القنابل الموقوتة كما في انفجار قضايا المناطق المهمشة الراهنة، التي أدت لانفصال الجنوب، وتهدد بفصل دارفور وجبال النوبا والنيل الأزرق والشرق. .

كما تناول معاوية نور بنظرة متقدمة، وأفق واسع ونقديا سياسة التعليم في السودان في مقال له بجريدة “الجهاد” بتاريخ 17 مارس 1933 ، هاجم فيه السياسة التعليمية للاستعمار الانجليزي ، وانتقد الخلل في نظام التعليم المدني في السودان وضيق نطاقه في بداية القرن العشرين. فكلية غردون التي تم إنشاؤها لم تكن مدرسة ثانوية بالمعنى المفهوم ولا جامعة ، كما أنها لم تكن مدرسة عليا أيضا ، بل كانت كلية هدفها الأساسي تخريج الكتبة وصغار المحاسبين والفنيين والمهندسين ومدرسي الابتدائيات . الخ . ولم يكن هدف الإنجليز من التعليم تثقيفيا أو تمليك الخريجين أدوات منهجية لمواصلة المعرفة والبحث بعد التخرج ، بل كان هدفهم تخريج أدوات عمل حية لتسيير جهاز الدولة الاستعماري.

وصف معاوية محمد نور مناهج كلية غردون قائلا : “كانت مناهج التدريس في كلية غردون غريبة فليس هناك مجال للعلوم الطبيعية أو التاريخ الحديث والآداب ، وإنما معظمه تمرين على الآلة الكاتبة أو على شئون الهندسة العملية والمحاسبة “. .

كما انتقد سياسة التربية والعقاب البدني، ووصفها بأنها لا تفيد وان وسائل الضغط والقهر في التربية فاشلة ، واشار الي أن الطالب في كلية غردون ، لا يُعامل علي أنه طالب علم من أهم خصائصه العطف ، والفهم المتبادل ، ولكنه يُعامل كجندي تطلب منه الطاعة والخضوع بالجلد والحبس ، ومر العقاب.

كما انتقد معاوية السياسة الصحية للاستعمار في مقال له بجريدة ” الجهاد” بتاريخ 15 مارس 1933 بعنوان ” الأهالي بين المرض والجهل” وكشف خطل دعاوي الاستعمار أنه يحارب الأمراض القاتلة ، وأشار الي انتشار الملاريا والدوسنتاريا والبلهارسيا وخلافها من الأمراض المضعفة للجسم ، وما زالت تنتشر بين جميع الأهالي وخاصة وسط الفلاحين.

ونسبة الي أن مقالات معاوية نور كانت ناقدة للاستعمار ، فقد كانت السلطات الانجليزية لا تسمح بنشرها في داخل السودان في” مجلة الفجر” ( للمزيد من التفاصيل : راجع السني بانقا : معاوية نور، مركز عبد الكريم ميرغني 2006 ، ص 104).

 

4

لم يكن نقد معاوية نور سلبيا ، كما اشار البعض ، ولكنه كان يقدم البديل ، ويسعي للاصلاح، ومن المقالات المهمة التي كتبها معاوية نور في مجلة “الفجر” عن الأديب التي يشير فيها الي : إن الأديب يجب الا يقتصر علي الأدب والشعر الصرف ، لكن يجب أن يكون ملما بالتيارات الفكرية والسياسية والأدبية ، وأهم ما يجري من أحداث في العالم ، لافتا الانظار الي الحركة العمالية في ذلك الوقت ، والي مدرسة الفابيين بقيادة سيدني ويب ، وبرنارد شو وغيرهما”.

وهذا يشير الي أن معاوية محمد نور وغيره من كتاب الثلاثتييات كانوا علي المام بتيارات الفكر العالمي ، مثل الاشتراكية الفابية وروادها مثل سلامة موسي الذي الف كتابا عن الاشتراكية في عام 1913.

لقد توجست الإدارة الاستعمارية خيفة من معاوية محمد نور منذ فترة الدراسة ، عندما رفض اقتراحها لدراسة الطب بمنحة مالية للدراسة ، ولكن معاوية رفض ذلك العرض ، ولبي رغبته لدراسة الأدب ، فقد كان سابقا لعصره لا يري أن العلم وسيلة للوظيفة في الحكومة، ويرغب في العلم من أجل العلم وصارع ضد الادارة الاستعمارية وداخل اسرته ، حتى سافر الي بيروت لدراسة الأدب علي نفقته الخاصة ، وحصل علي ماجستير في الأدب الانجليزي، وبعد ذلك عمل في الصحافة بمصر التي كانت بالكاد تقيم أوده ، مما أدي لتدهور حالته الصحية وعاد الي السودان، ولما عاد للسودان لم يجد وظيفة حكومة لمعرفته الغزيرة ، ولم يطيقوا حتى مظهره الأنيق في البدلة والكرفته الصفراء التي جاء بها للمعاينة ، اضافة الي خطره علي الجيل الناشئ، للمزيد من التفاصيل : راجع ادورارد عطية، والسني بانقا ، مرجعين سابقين).

كما كان لمعاوية نور نظرة متقدمة عن الاستقلال من الحكم الاستعماري الذي كان يري أنه ليس غاية في ذاته ، بل وسيلة للتنمية الاقتصادية والتطور الثقافي والاصلاح الاجتماعي، قبل أن يكون ثورة ضد الغاصب الأجنبي.، اضافة لمهاجمته للادارة الأهلية وسياسة الحكومة في التعليم والصحة ، هاجم سياسة الحكومة في مشروع الجزيرة.

ويذكر السني بانقا في مؤلفه معاوية نور : أن جريدة البلاغ نشرت عام 1954 ما اعتبرته اخطر دقائق حكومة السودان التي كانت تتعلق بالسودانيين الذين تعلموا خارج السودان، والسياسة البريطانية التي كانت تتبع نحوهم بعد عودتهم من الخارج ، ذكرت الخطابات عن معاوية :

” يُعتبر أذكي والمع هؤلاء السودانيين الذين تعلموا في الخارج ، وأكثرهم خطرا وتأثيراعلي الجيل الناشئ ، وقرروا أن يراقبوه مراقبة دقيقة ، ويعملوا علي كسبه واحتوائه في ذلك الوقت”.

ولكن كان معاوية نور عصيا علي الكسب والاحتواء ، وظل صامدا، وتمت محاربته والتضييق عليه في الرزق حتى تدهورت حالته الصحية والعقلية ، وفارق الحياة عام 1941، وكان ذلك امتدادا لمحاربة ومحاكمة واعدام وتصفية ثوار 1924 مثل: عبيد حاج الأمين ، وعلي عبد اللطيف ، الخ.

لقد حارب الاستعمار معاوية نور لأنه كان مثالا للمثقف في تلك الفترة الظلامية التي ارتبطت بهجمة قوية علي الحركة الوطنية بعد هزيمة ثورة 1924 ، الذي كان مرتبطا بشعبه ومعبرا عن تطلعاته ، وناقدا للواقع الاجتماعي لتغييره ،وكان يسعي للمعرفة باستمرار ولايرضي بالقليل ، كما في أعماله الناقدة حتى لنفسه باستمرار، والتي ربط فيها بين الواقع المحلي والعالمي. فله الرحمة والمغفرة في ذكرى رحيله الثمانين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.