لماذا لا نفكر في انتخابات المجالس المحلية

0 57
كتب: د. الشفيع خضر سعيد

 

.

التطورات الأخيرة، محاولة الانقلاب وما تلاها من عراك سياسي عجيب، فاقمت من أوضاع الحالة السياسية في البلاد، والتي أصلاً كانت مصبوغة بالعديد من التفاصيل والمطبات الوعرة، منها: أولاً، منذ البدايات، وكاهل الفترة الانتقالية ينوء بحجم الدمار والخراب الذي خلّفه نظام الإنقاذ، وطال كل شيء في البلاد، على المستوى المادي المحسوس وعلى مستوى القيم، ولاتزال الأولوية هي لوقف انحدار الوطن ومنع انزلاقه نحو الكارثة. ثانياً، الفترة الانتقالية ليست مجرد تمرين سياسي عادي، أو مجرد فترة تحضيرية للانتخابات، بل هي مفهوم فائق الأهمية بالنسبة لمصير البلد، وعملياً تم التعبير عنه في مهام محددة منصوص عليها في الوثيقة الدستورية، منها ما يتعلق بتصفية تركة نظام الإنقاذ المباد، ومنها ما يتعلق بكسر الحلقة الشريرة، ووضع لبنات وأسس وطن مستقر وآمن، تظلله سماوات الديمقراطية والسلام والعدالة، تمهيداً لمشروع نهضوي للوطن. وهي مهام تاريخية ومصيرية، الفشل في إنجازها يعني الانزلاق إلى هاوية الهمجية المرعبة. ثالثاً، ولأن الفترة الانتقالية بهذه الأهمية المصيرية، ولأن من المفترض أن تشارك وتساهم في إنجاز مهامها كل القوى المؤمنة بالثورة دون إقصاء، وحتى لا تُترك فريسة يتناهشها التنافس الحزبي، علماً بأن الجميع واعٍ بضعف هذه الأحزاب بعد ثلاثة عقود من القمع والتجريف، تم التوافق، والنص في الوثيقة الدستورية، على أن تقود الدفة قيادة تنفيذية انتقالية للبلاد، أساسها المهنية والكفاءة والنزاهة، وبعيداً عن أي ترضيات أو محاصصات سياسية وحزبية، وبعيداً، في ذات الوقت، عن الإقصاء وتمكين البعض على حساب البعض الآخر. رابعاً، للأسف، حصادنا حتى الآن هو الفشل..، الفشل في إنجاز المهام الانتقالية، والفشل في صد المحاصصة الحزبية، والفشل في منع التمكين السياسي، وكل ذلك يدق ناقوس الخطر. وهذا الفشل يفتح الأبواب لكل الاحتمالات، وهو أمر طبيعي، لكن من غير الطبيعي أن نتعامل معه بغفلة ولامبالاة، ترسخ معنى العجز فينا وغياب الرؤية.

ونكرر القول، بأن الوضع في البلاد لا يحتمل المماحكات والمطاولات وقصور الهمم، مثلما لا يحتمل المشاكسات والمكايدات بين القوى السياسية، وأن معنى وجوهر فترات الانتقال ومهامها، يتمثل في أنها تتيح للجميع، بمختلف رؤاهم السياسية والفكرية، التوافق على مشروع يعبّد مداخل وطرق تحقيق حلم كسر الحلقة الشريرة، ويضع السودان على منصة تأسيس جديدة، ترسي دعائم بناء دولة وطنية حداثية. وهذه مهمة تاريخية، تنطلق من فرضية أن الوطن لا يبنى بأيديولوجية هذه الكتلة أو تلك، ولا بمشروع هذا الحزب أو ذاك، ولا يمكن أن ينجزها فصيل أو فصيلان أو تحالف مجموعة بعينها من الفصائل، مثلما لا يمكنها أن تقتصر على النخب والقيادات السياسية وحدها، بل هو واجب كل القوى المؤمنة بالتغيير الذي دشنته ثورة ديسمبر العظيمة، من سياسيين وتكنوقراط وعسكريين ومجتمع مدني ومجتمع أهلي وشخصيات وطنية ومجموعات الشباب، وسائر قطاعات المجتمع، كل له دور، وكل عليه واجب مستحق، دون إقصاء، ودون تسييد أي انتماءات ضيقة، حزبية أو جهوية، على حساب الانتماء القومي. ولقد كان ذلك هو حلمنا الكبير إبان فترات الانتقال السابقة، ولكن تبخر الحلم وضاع، إلى أن وُلد من جديد مع انتصار ثورة ديسمبر الخالدة، وانتظام البلاد في الفترة الانتقالية الراهنة. إن وضع البلاد اليوم لا يحتمل ما نشهده اليوم من مشاكسات ومكايدات بين القوى السياسية، بما في ذلك أطراف قيادة الفترة الانتقالية، مثلما لا يحتمل المماحكات والمزايدات وسياسات التجريب. وهو وضع يصرخ فينا بخيارين لا ثالث لهما: إما البدء الآن وليس غداً، في الشروع بهمة وجدية لاستكمال مهام الانتقال لانتشال الوطن، أو الطوفان. أصحاب الخيار الأول، يجب عليهم أن يتحركوا في كل الاتجاهات، ويبحثوا عن بعضهم البعض ليتجمعوا ويتناسوا، أو يؤجلوا، خلافاتهم وتناقضاتهم السياسية والفكرية، وليتوافقوا على كيفية إنجاح الفترة الانتقالية وإنقاذ الوطن. نحن لا تزعجنا الصراعات السياسية والفكرية، فهي أمر طبيعي ومتوقع، ويمكن أن تأتي بنتائج صحية، ولكن المزعج حد الغضب، النزول بهذه الصراعات حضيض الابتذال، وأوضح علاماته تغليب الخلاف والصراع على تفاصيل حياة المواطن من لقمة العيش والصحة والأمن والأمان.

وفي الحقيقة، إذا استمرت العلاقات السياسية بين المكونات المدنية والعسكرية متوترة، وتمكن منها حوار الطرشان، وإذا تواصل التشاكس بين القوى السياسية التي بدأت موحدة ثم تشظت وساد الإقصاء والتخوين، وظلت هذه القوى تختلف في كل شيء، ما دام المعيار هو المصلحة الحزبية وليس مصلحة الوطن، وإذا تواصل تدني أداء أجهزة الفترة الانتقالية، وظل التنفيذ دون المستوى بدرجة بعيدة، وبقيت مهام الفترة الانتقالية حبيسة الوثيقة الدستورية، وإذا تواصل مسار الفشل، أو التلكؤ، في تكوين المفوضيات المستقلة المنوط بها استعادة الدولة التي اختطفها نظام الإنقاذ المخلوع، بهدف تحقيق قومية ولا حزبية واستقلالية كل أجهزة الدولة، المدنية والعسكرية، وضمان فعاليتها وكفاءتها، وإذا استمرت اللامبالاة العجيبة تجاه تكوين المفوضيات المختصة بإرساء لبنات ودعائم استدامة السلام وترسيخ التحول الديمقراطي وتحقيق سيادة حكم القانون، وإذا تباطأنا أكثر من ذلك في عقد المؤتمر القومي الدستوري المنوط به حسم قضايا إعادة بناء دولة السودان، قضايا شكل الحكم وعلاقة الدين بالدولة والهوية، والتوافق على الثوابت الدستورية لبناء الوطن، وعلى مسودة الدستور الدائم للبلاد على أساس التوافق واحترام ومراعاة التعدد والتنوع، وإذا لم تتعامل الحكومة بالسرعة والجدية المطلوبتين والضروريتين تجاه المطالب الإقليمية والجهوية، ونزيع فتيل التوتر والاشتعال، خاصة في شرق السودان، وإذا تواصل تفاقم الغلاء الفاحش، وساد شظف العيش وضاقت معيشة الناس حد الفاقة، وإذا لم نتوافق على، أو في الحقيقة لم نبتدئ الآن ونشرع فوراً في مناقشة أي نظام انتخابي ننشد، وأي قانون انتخابي يمكننا تبنيه، وما هو محتوى النظام الديمقراطي الملائم لبلادنا…، إذا حدث كل ذلك، فإن الفترة الانتقالية ستصبح في خطر ماحق.

من السيناريوهات المتوقعة للخروج من المأزق الراهن، الدعوة لقيام الانتخابات المبكرة، وقبل استكمال مهام الفترة الانتقالية. بالطبع، هناك من يرفض أي حديث عن الانتخابات قبل إنجاز مهام الفترة الانتقالية، ويرى تمديد الفترة إذا استدعى الأمر. وبالطبع، كان يمكن قبول هذا الرفض وقبول فكرة التمديد، إذا أصلاً كانت هنالك إنجازات وتبقى القليل لم ينجز. ولكن في ظل التعثر الحالي، حيث لا مجلس تشريعي ولا مفوضيات ولا تصفية تركة النظام البائد ولا قيام مؤسسات العدالة،…الخ، فإن التمديد هو تمديد للفشل، وسيأتي بعواقب وخيمة، ومن الصعب أن نلوم البعض الذي يرى في دعوة التمديد ورفض الانتخابات هروباً من اختبار التفويض الشعبي، وتخوفاً من فقدان كرسي السلطة، أو يرى فيها محاولات للتمكين والاستفادة القصوى من أجهزة وموارد الدولة. وعلى كل حال، فإن التمديد في ظل الأداء الفاشل، ودون توافق من الجميع، يفتح باب التسلط والاستبداد، ويضاعف اهتزازات البلد. وبالمقابل، فإن دعوة الانتخابات المبكرة مطروقة ومطروحة بشدة في العديد من المجالس. لكن، في حالة الاستجابة لهذه الدعوة، وذهاب الناس إلى انتخابات برلمانية/رئاسية، دون استعداد من جانبهم، ولا من جانب القوى السياسية المضعضعة أوصالها وبنياتها الداخلية والتنظيمية، سنأتي بنظام، نعم منتخب وربما عبر انتخابات نزيهة وشرعية، ولكنه سيحمل بذور فشله في داخله، مثل بقية الأنظمة التي تم انتخابها في نهاية فترات الانتقال السابقة، وسيتواصل ويتكرر دوران الحلقة الشريرة، لكن ناتج الدوران هذه المرة، لن يكون نظاماً ديكتاتورياً قمعياً فحسب، بل أسوأ من ذلك حد الحرب الأهلية وتفتت السودان. والمسؤولية سيتحملها بالكامل قادة الفترة الانتقالية في مختلف مواقعهم، في مجلس السيادة، وفي مجلس الوزراء، وفي مجلس الشراكة، وفي الحاضنة السياسية، وستظل اللعنات تطاردهم. ومع ذلك، فإن دعوة الذهاب إلى انتخابات مبكرة، ربما كانت مخرجاً معقولاً وعادلاً من الأزمة التي تعيشها بلادنا اليوم، إذا ما كانت المفوضيات القومية المستقلة المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية قد تكونت وأنجزت أعمالها. ليس بالضرورة كل المفوضيات، ولكن على الأقل مفوضية السلام، ومفوضية إصلاح المنظومة العدلية والقانونية، ومفوضية العدالة الانتقالية، ومفوضية المؤتمر الدستوري وصناعة الدستور، وبالطبع مفوضية الانتخابات. أما قبل ذلك، فهي دعوة لتجريب المجرب الذي أثبت فشله، كما انتهت إليه فترات الانتقال السابقة، وهي عملياً تعني نسف الفترة الانتقالية، ودعوة صريحة لاستمرار دوران الحلقة الشريرة كما ذكرنا..!
لكن، وبالرغم من كل ذلك، وبالنظر إلى حالة الاستقطاب الحاد والعدائي بين القوى السياسية، نحن لا نرفض اقتراح الذهاب إلى الانتخابات كلياً، ولكننا نقترح أن نعدل فيه لنعيد طرحه بالتركيز على انتخابات المجالس المحلية. نحن نقترح وننادي بالبدء فوراً في صياغة القوانين والإجراءات اللازمة والضرورية لتنظيم انتخابات المجالس المحلية بمستوياتها المختلفة، في المحليات والأحياء. فهذه المجالس، بالإضافة إلى أنها تتعامل مباشرة مع قضايا المواطن المعيشية من أكل وشرب وصحة وتعليم وصحة بيئة وخدمات…الخ، فإنها أيضاً يمكن أن تلعب دوراً رقابياً، لا على المستوى المحلي وحسب، بل حتى تجاه مؤسسات الحكومة القومية والأجهزة الانتقالية المختلفة، بما في ذلك مجلسا السيادة والوزراء. ثم أن الانتخاب لهذه المجالس المحلية سيعتمد كثيراً على معرفة الناخب المباشرة بالمرشح وليس عبر حزبه، وأن الناخبين سيصوتون للمرشح الأقدر على خدمتهم، من وحي التجربة اللصيقة في الحي أو المحلية، غض النظر عن انتمائه الحزبي. هي باختصار تمرين أساسي في عملية بناء التحول الديمقراطي من القاعدة إلى أعلى. ومن تجربة انتخابات المجالس المحلية هذه، يمكن أن تتولد أفكار تساعد في بلورة أي النظم الانتخابية، على الصعيد القومي، أفضل لبلادنا في ظل واقع البلاد الاجتماعي والسياسي المعقد، الذي لايزال يعاني جراحات الحروب الأهلية والتوترات والنزاعات الاجتماعية والإثنية، وفي ظل الضعف البائن في أحزابنا السياسية المنهكة القوى، وحتى لا نستمرئ مواصلة ممارسة الكسل الذهني، فنهرع سريعاً لنسخ ولصق، Copy & Paste، التجارب الانتخابية الممارسة والناجحة في بلدان أخرى، كتجربة وستمنستر مثلاً، التي لا تتلاءم مع واقعنا، وظل الفشل حليفها في كل المرات السابقة، ودائماً ما تتم مصادرتها ببديل كارثي.

ومن زاوية أخرى، لعل اقتراح انتخابات المجالس المحلية، يحفزنا على البدء فوراً في مراجعة تجربة الحكم الاتحادي، بواسطة الخبراء وبمشاركة مختلف القطاعات الجماهيرية، خاصة في المناطق الطرفية، واتخاذ التدابير اللازمة لتمكين أهل المناطق المختلفة من إدارة شؤون مناطقهم، وذلك عبر تقوية أجهزة ومؤسسات النظام الفيدرالي وتعميق الديمقراطية فيها، وتوسيع اللامركزية بتنزيل المزيد من السلطات لتلك المناطق على حساب المركز، مقرونة بكفاية الموارد وعدالة توزيعها المبني على معايير علمية ومدروسة ونافذة، وبالتمييز الإنمائي للمناطق الأقل نمواً حتى تتم مساعدتها للوصول إلى مستويات متقدمة نسبياً. وفي ذات السياق، يُبتدر حوار حول العودة للتقسيمات الإدارية الإقليمية القديمة وإعادة ترتيب علاقتها بالمركز، والتوافق على مقترحات بهذا الشأن، ليتم حسمها عند صياغة وإجازة الدستور الدائم للبلاد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.