لن نتسوق كمدنيين في سوق الانقلابات بعد هذا أبداً

0 86

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

(كتبت هذه الكلمة بعد فشل انقلاب الفريق ركن هاشم عبد المطلب في يوليو ٢٠١٩)
بانقلاب الفريق ركن هاشم عبد المطلب (نية أو واقعاً) على انقلاب المجلس العسكري (١١ ابريل ٢٠١٩) ندخل في عنق زجاجة بولتيكا الثكنات. ومن غرائب الصدف أن يتوافق دخولنا الحاضر في هذا العنق مع ذكرى دخولنا الأول في تلك البولتيكا بانقلاب 19 يوليو1971 على انقلاب مايو 1969. ولما سمعت الفريق ركن حميدتي يستوجب قائد الانقلاب قبل محاكمته الموعودة طرأ لي نميري يستوجب بسوء أدب جُبل عليه الشهيد بابكر النور، أو أستاذنا عبد الخالق محجوب قبل محاكمتهم بالإعدام. فقد كان سبق له إدانتهم خلال الاستجواب. ناهيك من تطابق اسم قائديّ الانقلاب هاشم عبد المطلب وهاشم العطا.
جاء انقلاب هاشم الثاني (نية أو واقعاً) ليصحح انقلاب المجلس العسكري الحاكم كما أراد انقلاب هاشم الأول. وهذه مزاباة أصل في بولتيكا الثكنات يصير بها الشعب متسوقاً للانقلاب الأصح لا طرفاً أصيلاً في معادلة الحكم. فبيان هاشم عبد المطلب لم يترك فرضاً ناقصاً مما يتوق له رواد السوق المدنيين. ومع أنه لم يذكر قوى الحرية والتغيير، وجاء فيه ب”لا إقصاء لأحد” المشبوهة التي تتذرع بها الثورة المضادة إلا أنه كان صريحاً في التزامه بالثورة. فدعا إلى حل المؤتمر الوطني، ومحاسبة رموز النظام المعزول ورد لحقوق، وتكوين مجلس تشريعي. وحتى دعوته لعدم الإقصاء قيدها بالقسط. فيُقصى من وجدته العدالة مستحقاً للإقصاء.
أما المجلس العسكري الانتقالي (البرهان) فكان الأبرع في تسويق نفسه لنا من واقع بيان المنقلبين. فراح يضغط على أزرار الحساسية الثورية المدنية. فعرض علينا نسخة مبتورة من بيان الانقلاب جاء فيها ب “لا اقصاء لا أحد” لاستنفارنا ضده كانقلاب كيزاني صوته من صوتهم. وضغط على زر ثان باتهام الانقلاب بأنه أراد قطع طريق الاتفاق بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري. وهذا كفر في نظر المدنيين بالطبع. ثم بدأ المجلس حملة اعتقالات بين الكيزان أشبع خبرها المدنيين الذين ساءهم عدم تقييد حرية عناصر منهم معلومة الأدوار في ظلم الإنقاذ وفسادها. ولم يَثْبت مع ذلك اعتقال أسماء، وسرعان ما أُطلق سراح أسماء أخرى. واستغرب الناس لاعتقال الفريق بكري حسن صالح الذي نساه الناس وربما لم ينسهم. وكشفت مصادر الخبر عن جهل بالمُعتقل من الإنقاذيين من غيره حين روجت لاعتقال الزبير محمد الحسن الذي هو اصلاً في التحفظ عليه في بيته. وهكذا، وبطريقة من دقنو وفَتّلو، استثمر المجلس العسكري البيان المنقوص للفريق هاشم ليكسب أرضاً جديدة بيننا.

وجب علينا نحن المطالبين بالحكم المدني أن نترفع عن الدخول في عنق زجاجة بولتيكا الثكنات التي استردت نفسها للحقل السياسي بعد أن ظننا أنها استنفدت أغراضها. لقد قيض لنا التاريخ وإرادتنا أن نستقل بعوالم سياسية مستقلة بعد عقود من احتكار حملة السلاح في الدولة، وعملاء الدولة، والحركات المسلحة لممارسة السياسة خالصة لهم حتى قضوا عليها قضاء مبرماً. ولن تجد أبلغ تجسيد لهذا الاحتكار من لازمة المخلوع البشير القائلة إن من أراد الحكم فليخرج عليه بسلاحه. واستجاب لاستفزازه كثيرون سببهم لحرب العصابات هو الكيد للبشير لا التحقق من قدرتهم عليه.
ومن موجبات الترفع المدني عن التورط في بولتيكا الثكنات أن نتميز بالمبدئية. فقد خرجنا للمدنية لتحرير الثكنات نفسها من أدواء بوليتيكاها التي نصبت صناعة الموت في البلد، وخربته تخريبا، وتجردت هي نفسها من مهنيتها. فاختلط حابل المهنة مع الارتزاق مع الثورة المسلحة. ونريد لمدنيتنا أن تنأى عن انتهازية استثمار سَقط هذه البولتيكا لما نعتقد أنه يصب في مصلحتنا. فقد رأيت من انتهز سانحة الانقلاب ليطلب من المجلس العسكري مراجعة نفسه، والاستواء على علاقة مستقرة مع الحرية والتغيير، أو تفكيك النظام القديم بصرامة لكيلا يخرج عليه مثل هاشم الثاني.
ليس من المبدئية في طلبنا الحكم المدني أن نصير عرضة لهبوب رياح بولتيكا الثكنات. ولن ننجو من عصف هذه الرياح إلا بالتوطن في موقف يتعاطى مع العسكرية ككل كقوى في طريقها للترحل عن السياسة. فتكف أطرافها من تسويق نفسها في منافسة حول برامج للإصلاح ما نابنا منها غير الأذية خلال فترة لحكم الوطني. إنها هي، لا الوطن، التي في مأزق فقدت به وظيفتها وخلقيتها ومهنيتها فقداناً يستحثها لإصلاح نفسها بنفسها. وصح بذلك أن:
-أن نطلب من المجلس العسكري عرض حقائق انقلاب الفريق هاشم التصحيحي وملابساته على قوى الحرية والتغيير حتى تسهم بما ترى في هذا الجانب الهام من السياسة الوطنية التي عليها مدار حماية الثورة واطرادها.
-أن يحمي المجلس العسكري المتهمين من الاستفزاز، وإشانة السمعة مثل التكهن بدوافعهم الشخصية للانقلاب، وأن يوفر لهم، كضباط عظام بالقوات المسلحة، كل وسائل الدفاع الكريم عن أنفسهم في محاكمة عادلة متى اكتملت التحقيقات.
-التأكيد بأن اعتقالات الكيزان التي جرت ليست ديكوراً للانقلاب (نية أو فعلاً) بل قد جاءت في سياق المطلب الثابت للتحفظ على من أثرى مالاً وفحش سياسية.
ونسأل الله أن يكون هذا آخر الانقلابات والأحزان متى عالجناه كمرض سياسي فشا طويلاً في جسد العسكرية السودانية لا مجرد “مؤامرة”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.