ليرفع جلابة المركز يدهم عن حركات الهامش

0 66
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(أعيد نشر هذه الكلمة عن العلاقة غير الصحية بين جماعة من الشماليين وحركات الهامش المسلحة بعد واقعتين أخيرتين تمثلت فيهما هذه الحالة المرضية. فرثيت لمحمد جلال هاشم ومحمد يوسف أحمد المصطفي يندبان حظهما بفندق في جوبا انتظاراً لمن يأتي من الحكومة ليتفاوض معهما نيابة عن الحركة الشعبية الحلو. أما الموقف الثاني فهو صمت الأحزاب في المركز عن احتلال بعض الحركات المسلحة لفضاءات في الخرطوم بما لا يليق بين انزعاج حقيقي منه من جمهرة غفيرة من سكان العاصمة. ولما امتنعت الأحزاب عن بيان ما ترى حول ذلك الاحتلال وثقافته لم يجد كثير من هؤلاء الناس بداً من الوقوع على رصيد معلوم من الحزازات التاريخية في التعاطي مع فعل المسلحين. وهذا نكسة عن السلام لو عرفوا).
صرح الأستاذ غازي سليمان أن العقيد جون قرنق سأله مقابلة جونسون مبعوث الرئيس كلينتون. وكنت التمست في كلمة ماضية من غازي أن يحصر نفسه في تقديم نفسه على الساحة السياسية بلا طمع في أحد. فقد تكررت عند غازي هذه الإشارات إلى مهام يؤديها نيابة عن قرنق. وكنت تمنيت أن يكون لقاء غازى بالمندوب الأمريكي هو لقاء غازي به أصالة عن نفسه لا نيابة عن أحد.
ويعرف الداني والقاصي أن قرنق بغير حاجة إلى وسيط “مندوكرو” في مسالك السياسة الأمريكية. وغازي عندي ليس هيناً وأعرف عنه طموحاً عريقاً ليلعب دوراً سياسياً مقدماً منذ عهدنا في الجبهة الديمقراطية في ستينات جامعة الخرطوم، وفي لقاءتنا والمرحوم عبد الله محمد الحسن بمنزلهم بأم درمان. ولا زلت أذكر كيف اطلعنا غازي على كراسة إنشاء إنجليزي لأستاذنا عبد الخالق محجوب على عهده بالثانوية احتفظ بها استاذه والده محمد أحمد سليمان من رعيل الحركة الوطنية. وأسأل الله يومي ونهاري هنا أن تكون تلك الكراسة قد سلمت من عاديات الزمن.
أعدت القول، ولن أمل تكراره، أن على “أولاد العرب-المندوكورات” من الساسيين أن يبتكروا طريقة أذكى وأصوب لتأليف الجنوبيين بغير التحلق حول زعيم جنوبي ما. وهذه حيلة جلابية قديمة يتزوج بها الجلابي في الجنوب من بيت السلطان فينعم بتجارة آمنة في ظله. فأهدى السبل إلى الحديث إلى الجنوبيين قاطبة أن ندير، نحن أولاد العرب، جدلاً عميقاً مسؤولاً حول ثقافتنا المتهمة بالاستعلاء، وممارساتنا السياسية الموصومة بالغش حتى نقف وجهاً لوجه مع عيبنا ونتبرأ منه قولاً وفعلاً ووعياً وعزيمة. وقد دعت إلى ذلك السفيرة ولز التي سبقت جونسون في حوار لها مع لجنة العلاقات الأفريقية بالكونغرس.
تطبيقاً لهذه القاعدة كنت كتبت، وأنا قيد العمل السري في الحزب الشيوعي، كتاباً في ١٩٧٧ أخذت على “ود العرب” عنجهيته فرحاً بلغته العربية مستصغراً لشأن اللغات الأخرى في الوطن. وكتبت خلال نفس الفترة مسرحيتي “السكة حديد قربت المسافات وكثيراً”. واصطنعت شخصية “رزق” ارقيق السابق وأسقطت عليه نظراتي الناقدة ل”ود العرب”.
اختلفت محاولاتي هذه عما يجري حالياً من تشهير عولمي ب”ود العرب” في أمرين: أولهما أنني انطلقت، وما يزال، من أن شعبنا العربي المسلم أهل للحرية، وذو قابلية للتسامح، وبارع في خطط الأخاء. أما الأمر الثاني، وهو متصل بالأول، فإن جهودي هذه كانت تصب في حركة سياسية غراء أحاطت بآفاق التحرر السياسي والاجتماعي كلها من ألف الديمقراطية إلى ياء العدالة الاجتماعية. وتريد أن تحمل سواد الناس من أولاد العرب وغيرهم إلى القبض على أداة الحكم وتدبير معاشهم ومعادهم.
معلوم تحول نقد “ود العرب” الآن إلى حركة معارضة وحيدة الجانب يغلب عليها الكيد والفتنة وسوء الاطلاع تخاطب من يسوى ولا يسوى في مزادت حقوق الإنسان ومزاداتها. فلا جذور لها بين شعب أولاد العرب، ولا صدى، ليتحرروا بتأثيرهما. تحول أمر إدارة الحوار مع ود العرب ليستنقذ نفسه من وهدات تاريخه وثقافته إلي صناعة في المعارضة معروفة: يهز الجنوبيون شجرة النظم العسكرية ويلتقط الشماليون الثمار كما في ١٩٦٤ و١٩٨٥. ولكن ذلك زمن ولى يا صاح. وسيعلم الحالمون الملتقطون أي منقلب يتقلبون.
يذكرني تهافت المعارضة على العقيد قرنق بقصة المرحومة نور الشام، بت خالتي فاطمة. فقد زارت نور الشام، فلاحة القرية الماهرة، أهلاً لها في المدينة. وكانت لهم غنماية ذات لبن وفير غير أنها حاسدة به وشرسة عند الحلب. ونجحت نور الشام بالطبع في ترويض الغنماية وحلبها. فأسعدت أهل الدار. وفي يوم سألت نور الشام أن تسافر البلد فماطلها أهلها قائلين: “يا حليلك يا نور الشام والله مشتهنك. نحن ما شبعنا منك. نحن دحين اتونسنا يا بت أمي. الله يلعن الشغلة”. ولم ينطل ذلك على نور الشام المتأكدة أن للغنماية دخل في ابقائها في المدينة. وقررت يوماً أن تواجههم بالحقيقة. فلما كرروا عليها حكاية المشتهواية قالت لهم: الكلام دا مو مشتهواية شي. بس دايرني أحلب لكم الأسد دا”.
أخشى أن يكون حب معارضي الإنقاذ لقرنق من باب “حلب الأسد” أو نظام البشير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.