كتب: ناصر كرم رمضان
.
مارتن روبسون ديلاني (1812-1885م) Martin Robison Delany، كان من أكثر المدافعين صراحةً عن القومية الثقافية السوداء بين الأمريكيين من أصل إفريقي في القرن التاسع عشر. فبعد عقود من الإهمال، برز اسمه في الآونة الأخيرة باعتباره النموذج الأبرز في التاريخ للوعي والفخر بالعرق الأسود.
أولًا: النشأة والسمات والخبرات الشخصية:
وُلِدَ مارتن روبسون ديلاني في “تشارلز تاون” Charles Town بولاية “فرجينيا الغربية” Western Virginia، لأم سوداء حرَّة وأب مستعبَد في عام 1812م. وعندما تمَّ تهديد والدته بالسجن لتعليمها العبيد القراءة، قاموا جميعًا بالفرار عبر الحدود إلى ولاية “بنسلفانيا الغربية” Western Pennsylvania في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر.
وبحلول عام 1831م استقرت الأسرة في “بيتسبرج” Pittsburgh، وهناك ساهم ديلاني في تأسيس “جمعية طيبة الأدبية” Theban Literary Society، حيث كانت تقتصر على الأمريكيين من أصل إفريقي، وسُمِّيَتْ على اسم مدينة مصرية قديمة. وفي أثناء عمله كمتدرب طبي انضم ديلاني إلى “جمعية مكافحة الرّقّ المحلية” local Anti-Slavery Society، و”الجمعية الأمريكية للإصلاح الأخلاقي” American Moral Reform Society، وعمل بهما كمسؤول.
كان ديلاني يطمح إلى أن يعمل بإحدى المهن طبية في وقتٍ كان يُعتَبر هذا حُلمًا مستحيلًا بالنسبة لرجل أسود، وعلى الرغم من ذلك تدرَّب على يد طبيب أبيض مناهِض للعبودية، لكنَّه كان غير قادر على إكمال تدريبه بسبب نقص الأموال، فافتتح مكتبه الخاص في عام 1836م ومارَس فيه الحجامة. كما مارَس لبعض الوقت طبّ الأسنان، فمَكَّنَهُ دَخْلُهُ من هذه الممارسة من متابعة اهتمامات ودراسات أخرى، ومواصلة العمل المجتمعي، وإلقاء محاضرات من أجل المطالبة بحقوق السود وإلغاء العبودية.
في عام 1843م أسَّس ديلاني وحرَّر جريدته الخاصة الأسبوعية “الغموض” The Mystery؛ وهي واحدة من أقدم الصحف الإفريقية بأمريكا. وفي خريف عام 1847م انضمَّ إلى “فريدريك دوجلاس” Frederick Douglass (1817-1895م)، وشاركه في تأسيس جريدة “نجم الشمال” North Star The (والتي تُعرَف الآن بأوراق فردريك دوجلاس) في “روتشستر” Rochester بنيويورك. وسرعان ما أصبحت هذه الصحيفة واحدة من أهم المنشورات الداعية إلى إلغاء العبودية.
تقدَّم ديلاني بطلبٍ إلى عدة كليات من أجل دراسة الطب؛ وفي كلّ مرة كان يتم فيها رفض طلبه، وبتوصيات من أطباء ورجال الدين في بيتسبرج، تم قبوله في الدورة الشتوية لعام 1850م في كلية الطب بجامعة هارفارد، لكنَّه بعد أقل من شهرين من الحضور، وبعد احتجاج الطلاب البيض في الكلية على وجود طلاب من السود؛ طلبت إدارة الكلية من الطلاب السود المغادرة في نهاية الفصل الدراسي؛ فقد اعتبرت الكلية “أنه من غير المناسب أن يدرس السود والبيض معًا”.
في 30 أغسطس 1858م قامت “الهيئة العامة لاتفاقية الملونين” General Board of the Convention of Colored Persons، المنعقدة في تشثام Chatham بكندا الغربية (الآن أونتاريو Ontario) بتعيين ديلاني رئيسًا مفوضًا لـ”فريق وادي النيجر الاستكشافي”، من أجل العثور على موطن جديد للسود، والذي ستكون من أهدافه توفير الفرص الاقتصادية، والحرية السياسية للمهاجرين السود من الولايات المتحدة وكندا.
وما أن انتهى من رحلته سافر إلى لندن في 16 مايو 1860م، ليلتقي عددًا من النبلاء والمهتمّين بتمدُّن الأفارقة، ومن ثَمَّ عاد إلى أمريكا مع بداية الحرب الأهلية الأمريكية، وساعد في تجنيد السود في جيش الاتحاد. وفي 18 فبراير 1865م استقبله الرئيس لينكولن في البيت الأبيض، واقترح عليه خطة لتجنيد السود بالجيش، بقيادة ضباط من السود.
ترك ديلاني الجيش في أغسطس 1868م، لكنَّه بقي في “ساوث كارولينا” أثناء إعادة الإعمار؛ حيث كان نشطًا في الشؤون السياسية تحت مسميات سياسية مختلفة. وترشَّح دون جدوى كنائب لحاكم الولاية في عام 1874م، لكنَّه في عام 1875م تمَّ تعيينه قاضيًا في مقاطعة “تشارلستون” بمساعدة الجمهوريين، وأُعيد تعيينه في عام 1876م بعد دعم الديمقراطيين المنتصرين. لكنَّه عندما تولى الفصيل المحافظ السلطة في عام 1878م فقَد ديلاني منصبه.
تزوج ديلاني في عام 1843م، وأصبح لديه ستة من الذكور وبنت واحدة، تم تسميتهم جميعًا بأسماء المتميزين تاريخيًّا من السود، وتوفي في 24 يناير 1885م في “أوهايو”.
ثانيًا: السياق الفكري والسياسي في القرن التاسع عشر
شهد القرن التاسع عشر استمرارًا لأفكار “القومية السوداء” على المستويين الفكري والثقافي. فالقومية السوداء كأيديولوجية أو فلسفة؛ هي واحدة من أقدم التقاليد وأكثرها ديمومة في الفكر السياسي الأمريكي. فقد دافع القوميون السود عن أشياء مثل “تقرير المصير”، و”التضامن العِرْقِيّ”، و”الاعتماد على الذات”، وأشكال مختلفة من “الفصل العنصري الطوعي”، و”الفخر بالإنجازات التاريخية” لأولئك المنحدرين من أصل إفريقي، والجهود المتضافرة للتغلب على “الذات العنصرية”، وغرس “حبّ الذات”، والمقاومة والنضال ضد العنصرية المضادة للسود، وتطوير والحفاظ على “هوية عرقية ثقافية سوداء مميزة”، والاعتراف “بإفريقيا كوطنٍ حقيقيّ لأولئك السود”.
ويبدو أن كل هذه الأفكار، تركَّزت بشكلٍ أساسيّ على القومية السوداء، فجميعها كانت تؤكّد على التزامها بالتضامن السياسي الأسود؛ حيث إن هذا الالتزام كان عنصرًا ضروريًّا في جميع إصدارات الفلسفة الاجتماعية. ويمكن القول: إن بعض أشكال التضامن هذه كانت تدعم أيّ نوع من السياسة السوداء. وتقترح الخطابات القومية السوداء عددًا من الأُسُس للتضامن السياسيّ، التي يتم تنظيمها عادةً حول مفهومٍ معيَّنٍ، ومتنازَع عليه دائمًا؛ وهو مفهوم “السواد”. أحد الذين تَبَنَّوْا هذه المفاهيم التضامنيَّة السوداء، هو مارتن ديلاني الذي أطلق عليه البعض والد القومية السوداء في القرن التاسع عشر.
ثالثًا: إسهامات ديلاني الفكرية
لم يكن ديلاني فقط ناشطًا وطبيبًا وروائيًّا وصحفيًّا ومستكشفًا إفريقيًّا وسياسيًّا معروفًا فحسب، ولكنَّ الأهم من ذلك أنه كان يُنْظَر إليه على نطاق واسع على أنه “والد” النظرية القومية السوداء. ليس على المستوى الحركي فقط، ولكنَّ على المستوى الأدبي كذلك، فكل عقيدة جوهرية للفكر القوميّ الأسود تم تحديدها مسبقًا في كتاباته؛ فقد كان ديلاني المتحدّث الرائد والقائد الكاريزمي والمهندس الرئيسي لحركة السود نحو المطالبة بدولة قومية منفصلة.
وقد تنوعت وتطورت أفكاره السياسية خلال مراحله العمرية المختلفة، وحسب تغيُّر الأحداث من حوله داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وأنتَجَ أعمالًا أدبية متعددة: “حالة الأشخاص الملونين في الولايات المتحدة علوّهم وهجرتهم ومصيرهم” عام 1852م، “مبادئ الإثنولوجيا: أصل الأعراق، مع ملخص للحضارة الإثيوبية والمصرية” عام1879م، “التقرير الرسمي لاستكشاف وادي النيجر” عام 1861م، “المصير السياسي للعرق الملون”.
هذا، وتتلخص أفكار ديلاني في مطالبته بإلغاء العبودية، والهجرة، والقومية السوداء.
1- الدعوة إلى إلغاء العبودية:
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أيد السود بأغلبية ساحقة الفلسفة “المحافظة” Conservative أو “الإقناع الأخلاقي” Moral Suasion؛ التي قُدِّمَتْ كحلّ لمشاكل السود؛ باعتبارها أفكارًا متجذّرة في الأخلاق البروتستانتية، ومتوافقة مع القيم السائدة. فأصبحت هذه الفلسفة “المحافظة” هي الفلسفة المحددة لحركة المطالبة بإلغاء العبودية مِن قِبَل السود، وتم إحياء ذكراها من خلال تشكيل جمعية الإصلاح الأخلاقي الأمريكية American Moral Reform Society في عام 1835م؛ وهي منظمة قادت حملة “الإقناع الأخلاقي” للعقد التالي. فاعتنق ديلاني مبادئ “الإقناع الأخلاقي”، والتي أصبحت تُمثّل توجُّهه الفلسفيّ، حيث انغمس في عدة نشاطات داخل هذه الحركة.
هذه المرحلة “المحافظة” من حياته المهنية، انعكست على قرارات وخيارات ديلاني إيمانًا عميقًا ودائمًا “بتحسين الذات وإصلاح الشخصية كاستراتيجيات لتنمية السود”، كان الهدف منها “تحقيق المساواة الحقيقية”. فسافر على نطاق واسع إلى أوهايو وميتشجان وديلاوير وبنسلفانيا لإلقاء محاضرات حول مكافحة العبودية، وحثّ السود على “تنمية عادات الصناعة والادخار والاقتصاد والإصلاح الأخلاقي”؛ وجادل بأن “النجاح في التجارة والأعمال سيفتح الباب لتقدم السود داخل أمريكا”.
كان ديلاني مثله مثل معلميه “وودسون” و”ويبر” Lewis Woodson, William Whipper في تبنّيه “للإقناع الأخلاقي”؛ يؤمن بإمكانية “التكامل بين السود والبيض في أمريكا”، وبأنَّ “العقبات التي واجهها السود لم تكن مستعصيةً على الحلّ”؛ وكان يرى أن “هذه المشكلات سوف تختفي عندما يصبح السود أكثر ميلًا إلى المغامرة والنجاح الاقتصادي”. ويستحقّ إيمان ديلاني بالقوة الأخلاقية لريادة الأعمال الاقتصادية إلى شرحًا مطولاً، فهي تظهر بشكل كبير من خلال مقالاته المنشورة في جريدة “نجمة الشمال” The North Star.
استجاب السود بشكل إيجابي لحملة ديلاني من أجل “الإقناع الأخلاقي”، فقد وجد خلال جولاته في أمريكا “أدلة وفيرة على نجاح المشاريع التجارية السوداء”، ومن ثمَّ قام بنشرها في كتاباته؛ وكرَّس عدة صفحات من كتابه “الحالة والارتفاع والهجرة” The Condition, Elevation, Emigration, and Destiny of the Colored People of the United States (1852م) لتسليط الضوء على العديد من المؤسسات التجارية في المجتمعات السوداء في جميع أنحاء البلاد.
وبحلول أواخر أربعينيات القرن التاسع عشر، وصل ديلاني والقيادات السوداء إلى مفترق طرقٍ حَرِج؛ فقد أدرك أن سياسته “المحافظة” التي يُمثّلها الإقناع الأخلاقي قد فشلت في إحداث تغييرات ذات مغزى، إلى جانب الجاذبية المتزايدة للبدائل السياسية والآنية “الراديكالية”، فعلى الرغم من “جهود التحسين الذاتي، والإنجازات التي تحققت في التعليم، ونسبة الثراء والتنمية الاقتصادية، والإصلاح الأخلاقي، ظل السود مُهَمَّشِين، وبدا المجتمع في غالبه عازمًا على إبقائهم في خضوع دائم”، و”قُوبِلَتْ محاولات السود للتغلُّب على الفقر والانحطاط بانتقامٍ عنيفٍ من البيض”، وفي المقابل “أُصِيبَ السود بالإحباط، فبادروا بتغيير سياستهم واستراتيجيتهم”. وفي نفس الوقت رفَض ديلاني الموقف الأيديولوجي، فدعا إلى حركة هجرة قومية وانفصالية “راديكالية” ناشئة، وناصره في دعواه عددٌ قليلٌ من السود؛ وخلص ديلاني إلى أن “الحرية والمساواة لا يمكن تصورها داخل الولايات المتحدة”.
كان ديلاني في هذه الفترة يرفض “ترك الوطن الذي وُلِدَ فيه لمجرد أنه يعاني من العنصرية”، ورفض كذلك التفسيرات الدينية التي تُرسِّخ لعبودية السود، واعتبر فَهْمَ السود للدين بمثابة لعنة عليهم؛ فالسود كانوا يطمعون في معونة الله وتأييدهم لهم، وفي الوقت نفسه لا يفكرون فيما يجب أن يفعلوه بأنفسهم من أجل تغيير هذا الواقع، وهو ما اعتبره “خطأً كبيرًا وقَع فيه السود”، وأنه من وجهة نظره “سوء فَهْم للدِّين وتدبير الإله للبشر”.
فالدين في مفهومه “لم يكن سيئًا في ذاته”؛ لكنَّ “السلوك السلبيّ الناجم عن المعتقدات الخاطئة حول طبيعة الله”، وأن “اضطهاد السود هو إرادة إلهية”، جعله يرى الدين وقد تحوَّل إلى” أداة للقمع في يد الظالمين”.
وكان يرى أنه “تم الربط خطأ بين الدين والاستسلام لواقع العبودية”، ورفض الاعتقاد الذي ساد بين السود بأن “الصلاة هي الوسيلة الوحيدة التي وفَّرها الله لمن يسعون إلى إنهاء اضطهادهم”، لكنَّه كان يرى “أن الله خلق وسائل لكل غاية”؛ وأن “هذه الوسائل كافية لتحقيق الغايات المراد اكتسابها”.
هو نفسه عندما أعلن أنه “يُفضّل أن يكون وثنيًّا حرًّا على أن يكون مسيحيًّا عبدًا”، لم يكن رافضًا للدين؛ لكنه كان يُعبّر عن “رفضه للظلم”، وقال: “لا دين إلا ما يجلب لنا الحرية، أما الدين الذي يجعلنا عبيدًا؛ فهذا دين لا نعرفه”. فعلى الرغم من كونه بعيدًا عن التحديد، لكنه طالب صراحة “بمسيحية يكون السود فيها أحرارًا”. فهو باختصار كان يرفض “السلبية والخضوع والتبعية والقدَرية التي أصابت دين المجتمع الأسود”، ويدعو إلى “مسيحية سوداء يتجسَّد فيها النشاط والتحدّي والاستقلال والاعتماد على الذات”، بهدف “انتقال المجتمع الأسود من الاضطهاد والعبودية إلى السمو والحرية”.
2- الهجرة والسياسة الانفصالية:
منذ أوائل خمسينيات القرن التاسع عشر وحتى اندلاع الحرب الأهلية، قاد ديلاني حملة محلية ودولية قوية من أجل هجرة السود إلى خارج الولايات المتحدة الأمريكية؛ أكسَبه هذا التطوُّر سمعةً كبيرةً كناشط راديكالي ومناهض للعبودية؛ حيث أظهرت كتاباته السياسية وخُطَبه اتهامًا راديكاليًّا وعنصريًّا للمجتمع والثقافة الأمريكيين، فقد كان يعتقد أنه “اكتشف مؤامرة مِن قِبَل الأوروبيين والأمريكيين ضد الشعوب الملوّنة في جميع أنحاء العالم”، ودعا إلى “ترسيم الحدود على أساس العرق”، وبدا متشددًا في تصميمه على تحقيق هذا الحلم الانفصالي بجنسية سوداء مستقلة. ومع ذلك لم يؤمن الجميع بحركة الهجرة التي دعا لها؛ لكنهم طالبوا بحلّ “جذريّ” يُنْهِي العبودية كبديل عن الهجرة، وفي حين تمسَّك هذا الفريق بالإقناع الأخلاقي، اختار آخرون “استراتيجيات التعددية الثقافية” للعمل مع التيار الرئيسي داخل المجتمع.
وقد شكَّلت مرحلة الدعوة للهجرة عند ديلاني (1850–1863م) نقطة تحول في مسار فكره؛ فقد تخلَّى عن أمريكا كوطنٍ وشجَبَها؛ مما أكسَبَه سمعةً بوصفه زعيمٍ “متطرّف” ومناهض للمؤسسات، ومع ذلك فإن أفكاره “الراديكالية” لم تكن متَّسقة ولا مطلقة؛ لكنَّها كانت خليطًا بين “الراديكالية” واستراتيجيات “الإقناع الأخلاقي” المحافظة، فقد كان يرى أن قِيَم الإقناع الأخلاقي مهمة، وتكمن أهميتها في استخدامها في السياقات المحلية للولايات المتحدة؛ باعتبارها وسيلة مؤقتة من أجل بناء دولة خارج الولايات المتحدة للسود.
وفي دعوته لهجرة السود إلى إفريقيا، قدم ديلاني تحليلًا مفصلًا للتدهور واليأس اللذَيْن عانَى منهما السود في المجتمع الشمالي، وأنه “لم يُؤَدِّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي احتلَّه السود في الشمال إلى تعزيز التحيُّز الأبيض فحسب”، بل إنه قد “غرس أيضًا مشاعر الدونية وكراهية الذات بين السود”.
وصل ديلاني إلى مرحلة من الاعتقاد واليقين بأنه “حتى لو تم إلغاء العبودية؛ فإن العنصرية ستستمر طالمًا كان هناك أبيض وأسود في أمريكا”، ويرى أن “الطريقة الوحيدة لتخليص المجتمع من العنصرية ستكون من خلال “الاندماج” لكي “يصبح الأمريكيون شعبًا مختلطًا”، وهو ما وصفه ديلانى بأنه “لن يحدث أبدًا”؛ مبررًا ذلك بأن “الخلط بين الأعراق غير مرغوب فيه من كلا العرقين الأسود والأبيض”، فهو أيضًا لم يكن يريد أن “يفقد السود هويتهم كعِرْقٍ متميّز” على حدّ وصفه.
فكان يرى أن البديل الأفضل من وجهة نظره هو “إقامة دولة إفريقية للسود قوية وفخورة بعرقها”، لتكون هذه الدولة “قادرةً على كسب احترام السود في كل مكان في العالم”، وبالتالي “الإسراع بتحرير العبيد في أمريكا”. كتب ديلاني في مقال بعد عودته من رحلته للنيجر بجريدة “الأنجلو-إفريقية الأسبوعية” Weekly Anglo-African: “إن واجبي ومصيري سيكون في إفريقيا؛ هذه الأرض العظيمة والمجيدة، والتي رغم عيوبها هي أرضي وأرض أجدادي. فأنا لا أستطيع أن أتخلَّى عنها من أجل كل الأشياء الأخرى في هذا العالم، باستثناء منزلي، والذي بالإمكان تعويضه على الرغم من ذلك”.
في نفس الوقت الذي كان فيه ديلاني يحتفي بإفريقيا كموطن محتمل لهجرة السود، كان يتماهَى كذلك بإنجازات السود في أمريكا. وطالب بحقّ المساواة والمواطنة للسود، وأشار إلى “المساهمات الهائلة التي قدَّمها السود للاقتصاد الأمريكي”.
أثار هذا الشعور بالتناقض مشاعر معقَّدة ومتناقضة داخل ديلاني أثناء زيارته لوادي النيجر في عام 1859م؛ فقد كتب في يومياته أن “النظرة والانطباعات الأولية لساحل إفريقيا كانت ملهمة، وتستجيش المشاعر كذلك”. لكنَّ ديلاني كذلك كان مدفوعًا بعاطفة مستعرة؛ ففي الوقت الذي كان يسعى فيه لإيجاد موطن للسود في إفريقيا، كان يرفض كذلك أن يترك السود أمريكا كليةً، فمن الممكن أن تكون الهجرة إلى أمريكا اللاتينية كبديل عن إفريقيا.
فبينما كان يقف ديلاني فوق أرض أجداده في إفريقيا، كان ينتابه شعور من اليأس الغامض، فوجد نفسه ممزقًا بين ارتباطه بـ”وطنه” الذي وُلِدَ فيه، وحبّه لهذه الأرض التي أنجبت أجداده. وبعد أن أكمل مفاوضاته للحصول على منحة أرض في وادي النيجر، أبحر ديلاني إلى أمريكا متعهدًا بالعودة إلى إفريقيا، لكنه لم يَعُدْ.
فطموحات ديلاني القومية “الراديكالية” تبددت مع اندلاع الحرب الأهلية؛ فقد اعتنق وقتها فكرة التكامل، والذي استلزم العمل مع قادة سود آخرين مثل فريدريك دوجلاس Frederick Douglass وهنري جارنت Henry Highland Garnet لدفع قضية الاتحاد، وأثارت قناعة ديلاني وتصميمه على مصالحة السود مع الأمة إعجاب الرئيس أبراهام لنكولن لدرجة أنه كلَّفه كأول ضابط أسود في جيش الاتحاد.
3- القومية السوداء:
“سيكون من الازدواجية إخفاء حقيقة أن القضية الكبرى، عاجلًا أم آجلًا، هي مسألة أبيض وأسود، وهي التي ستُحدّد طبيعة النزاع حول مصير العالم، وسيذهب وسينحاز كل فرد تبعًا لهويته”؛ بهذه الكلمات المُقتبسة عبَّر ديلاني عن جوهر قضيته الكبرى.
كان يُطلق على ديلاني “والد القومية السوداء”، فقد كان مؤرخو الفكر السياسي الإفريقي يرون أنَّه أول من كتب ودوَّن في هذا الاتجاه، وأن سياسته الراديكالية كان الهدف منها هو “إنشاء دولة قومية منفصلة بواسطة الأمريكيين السود المهاجرين إلى إفريقيا”، معتبرًا أنه “الحل الأمثل لمواجهة إشكالية العِرْق”، وأن “الهجرة كانت ضرورية في ضوء الممارسة الدائمة والثابتة للعنصرية ضد السود في أمريكا”.
فقد اعتبر ديلاني أن “السود أُمَّة داخل أُمَّة”، وأنهم “فئات من أشخاصٍ قد حُرموا من المساواة في الامتيازات السياسية والدينية والاجتماعية”، ورأى أن ذلك يرجع إلى أن “مضطهديهم كانوا يعتبرونهم أقل شأنًا”. وفي وقتٍ لاحقٍ كتب أنه “في كلّ عصرٍ، وفي كل أمة تقريبًا، كانت هناك أمة داخل الأمة؛ وعلى الرغم من أنهم يُشكِّلون جزءًا لا يتجزأ من المجتمع، إلا أنهم من خلال تموضعهم داخل المجتمع، كانوا يعلمون مكانتهم الحقيقية”. استند فهم ديلاني لظروف السود في كتاباته إلى حدّ كبيرٍ إلى الآراء السابقة للمفكرين السود الذين تبنوا وجهة النظر بأنَّ “ادعاءات البيض بدونية السود كانت مسألةً سياسة وليست حقيقة علمية”.
هذه المعرفة التي انتقلت إلى ديلاني من سابقيه، هي نفسها التي جعلته يدرك بأنه لا يوجد “أمل في الخلاص من أولئك الذين يضطهدون السود”، كان بالتأكيد دافعًا رئيسيًّا في تبريرات ديلاني لمتابعة الهجرة، فقد كشفت أعماله عن تحليل مستقل لواقع غير متغيّر لا يزال يتعين على المنظّرين المعاصرين مواجهته؛ وهو “أن المساواة من المستحيل تحقيقها في الولايات المتحدة”.
تكوَّنت كذلك لديه قناعة بعد فترة بأن “الإقناع الأخلاقي غير مفيد مع البيض”، وهو ما جعله “عاجزًا تمامًا بوصفه استراتيجية سياسية لتحقيق المساواة”، ورأى أنه “فقط في اللحظات الأكثر تجريدًا من الناحية الفلسفية يمكن للمرء أن يساوي بين الأشياء”، وأن “كل الناس قد خُلِقُوا متساوين؛ لكنَّ المجتمع تبنَّى دونية الأشياء”، وافترض ديلاني بهذا الفهم أن “الدونية العرقية هي اختراع الرجل الأبيض من أجل أن يحافظ على مصالحه”، وهو ما سمَّاه “بالواقع العنصري”.
إنَّ قناعة ديلاني بوجهة النظر هذه أثَّرت على كتاباته لسنوات. ففي رسالته إلى “ويليام لويد جاريسون” William Lloyd Garrison في عام 1852م يقول بأنه “ليس لديَّ أيّ أمل في هذا البلد.. فأنا لا أثق في الشعب الأمريكي، بالرغم من وجود بعض الاستثناءات القليلة”، وهكذا توصل ديلاني أخيرًا بين عامي 1850 و1852م إلى استنتاج مفاده “أن المساواة بين السود في أمريكا ليس من الممكن تحقيقه”.
وصرح ديلاني برأيه هذا ودوَّنه في كتاب “المصير السياسي للعرق الملوّن” The Political Destiny of the Colored Race عام 1854م، وفي ثنايا الكتاب طوَّر رأيه بأن “التمييز السياسي تجاه السود في أمريكا تحوَّل إلى تمييز وجودي”. فقد كان “لون البشرة في الولايات المتحدة هو المحدِّد الأساسي للفئة الاجتماعية، والتي على أساسها يتم تحديد احتمالات أن يكون المرء لائقًا للمواطنة من عدمه”.
أدرك ديلاني أن “الهويات التي بَنَتْهَا المجتمعات كانت أكثر من مجرد أفكار أو معتقدات؛ لكنَّها كانت بمثابة أنطولوجيات اجتماعية يتمّ فيها المساواة على حسب اللون”، والتي يتمّ من خلالها “تحطيم الشخص الأسود وحرمانه من الحقوق المشتركة للمواطن الحاصل على حقّ التصويت”، فقد كانت وجهة النظر السائدة أنه “إذا افترضنا أن السود كانوا أقل شأنًا منذ الولادة، فمن المفهوم أن كونك أسود يعني أن تكون أقل شأنًا”.
وادعى ديلاني أن “تسميات الدونية هذه في المجتمعات تدوم بوصفها صورة داخل ذهن المجتمع”. لذلك فإن “دونية السود تنشأ من الخلط بين التفسيرات الاجتماعية والقانونية والسياسية للبيض التي تخطئ بين تفسيرات الواقع الاجتماعي والواقع الطبيعي”؛ وبالتالي “تستمر الدونية المفترضة للسود؛ لأنها تصبُّ في مصلحة أولئك الذين خلقوا أسطورة دونية الأسود من أجل الاستفادة من معناها ووجودها”.
ويؤكّد ديلاني بشدة على “أن السود يجب أن يحافظوا على هويتهم العرقية، وأن يطوّروا “الخصائص الأصلية لعرقهم من أجل تحسين أوضاع شعوبهم”، ويتساءل عن موقف البيض الذين يساعدون السود ويدّعون أنهم يسعون إلى ترقيتهم؛ “هل هم حريصون على ترقيتنا، أم يحثوننا بالخطأ على فقدان هويتنا كعرق متميز، معلنين أننا مثل الآخرين”؛ بينما في نفس الوقت “كان ممثليهم يجوبون العالم، وينشرون العقيدة التي تدعو إلى الهيمنة الأنجلو ساكسونية على العالم”، ودعا إلى إقرار حقيقة بأن “السود ليسوا متطابقين مع الأنجلو ساكسون أو أي عرق آخر قوقازي أو نقيّ من الأسرة البشرية”، وأنه “كلما أسرع السود في معرفة وإقرار هذه الحقيقة كان ذلك أفضل لهم وللأجيال القادمة”.
رابعًا: دلالات فكر ديلاني
تُعدّ حياة وفكر مارتن ديلاني من الموضوعات التي تم دراستها مؤخرًا بسبب تحديده المتكرر باعتباره أول قومي أسود في المجتمع الأفرو-أمريكي. كما أنه يُعتَبر من دعاة النزعة الانفصالية التي سادت بين السود في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، ونظرًا لتفانيه في المطالبة بالحقوق السياسية الكاملة للسود، وبوصفه نصيرًا للمساواة والمواطنة السوداء، كان ديلاني لا يعتبر الانفصالية خيارًا نهائيًّا لا مفر منه لمجتمع السود، فقد جمع في فكره بين المواطنة والانفصالية.
فأقنعت الطبيعة العنيفة واللاذعة لخطبه وأقواله في السنوات الأولى من إعادة الإعمار البعض بأنه كان يحمل كراهية للبيض، ومع ذلك بالنظر إلى السياق الأوسع لسياساته الوطنية؛ كان ديلاني جمهوريًّا “راديكاليًّا” بامتياز، فقد تبنَّى -مثل معظم السود- مطالب بالمشاركة السياسية، ومنح الحق في الانتخاب وتمكين السود، والسماح على المستوى السياسي بمشاركة أكبر للسود. واعتبر الكثيرون أن هذه المرحلة المبكرة من إعادة الإعمار في مسيرة ديلاني المهنية “جذرية”، ويرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى أنه في العديد من كتاباته وتصريحاته، دعا إلى حلول “جذرية” مثل إصلاح الأراضي وإعادة التوزيع، ودافَع بقوة عن الإصلاحات السياسية “الراديكالية” وقتها، والمتضمنة تعديلات دستورية مختلفة.
لكنَّه بحلول منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر؛ أبدى ديلاني تأييده العلني للحزب الديمقراطي؛ حزب مالكي العبيد السابقين؛ أولئك الذين شاركوا في الحرب الأهلية بقوة وحماسة للدفاع عن العبودية والحفاظ عليها. هذا التحوُّل في موقفه “المحافظ” بالنسبة لشخص كان قبل أقل من خمس سنوات في معسكر الراديكاليين؛ ألمح إليه ديلاني في رسالة إلى “فريدريك دوجلاس” قبل ذلك بعامين؛ فقد ألمح إلى “إحباطه المتزايد والمتنامي من السياسة الراديكالية”، واستنكر ديلاني بغضب النظام الجمهوري الراديكالي، وخلص إلى أن “الراديكالية ضللت السود وتغذَّت على توقعاتهم وتطلعاتهم غير الواقعية، واستغلت جهلهم وسذاجتهم، وأبعدتهم عن التيار الرئيسي للمجتمع الجنوبي” الذي كان يعتقد “أنه يحمل مفتاح تطورهم المستقبلي”.
وأكدت كذلك فلسفة ديلاني السياسية بوضوح على نهج “نفعي”، وربما حتى ساخر من الأيديولوجيات والحركات السياسية؛ فقد كان تقييم ديناميكيات السلطة أمرًا أساسيًّا لمفهوم ديلاني عن “الارتباط والأيديولوجيا السياسية”، لقد كان يعتقد أن “الزعيم الأسود لا ينبغي أن يسترشد فقط بالأيديولوجية، سواء أكانت راديكالية أم محافظة، ولكن عليه أن يسترشد بدعائم القوة التي تحمل هذه الأيديولوجية”.
يبدو أن ديلاني كان يمنح الأفراد حرية تغيير المواقف الأيديولوجية القائمة على تحديد ديناميكيات السلطة، فلا ينبغي أبدًا في وجهة نظره أن يكون الزعيم الأسود عبدًا لأيديولوجية ضعيفة. لذلك عكست مسيرة ديلاني ميلًا إلى تبديل الولاءات السياسية و”الارتباطات”، لقد تأرجح بين الخيارات الراديكالية والمحافظة، وفي كل مرة كانت قناعته تُحدّد خياراته لما هو أفضل لمصالح السود. ومع ذلك فإن علاقة ديلاني مع المحافظين في ساوث كارولينا كانت وسيلة استراتيجية لتأمين مساحة للسود.
لم يكن لفلسفة ديلاني السياسية مجال لمواقف لا يمكن التوفيق بينها أو أخلاقيات غير مجدية، فقد كان يعتقد أنه “يجب أن يكون السياسي الذكي على استعداد لاحتضان خيارات واستراتيجيات متنوعة وحتى متضاربة وتجريبها”؛ لذا “عليه أن يكون منفتحًا على العمل مع أيّ شخص لديه القدرة على المساعدة في تحقيق نتائج إيجابية، حتى الأعداء السابقين”.
لذلك تميزت مسيرة ديلاني بما يمكن وصفه بحقّ بأنه غرابة مركزية سياسية أيديولوجية مستنيرة من خلال الاعتبارات النفعية. وقد عزَّز هذا من التردّد المذهل الذي غيّر به ولاءاته السياسية ومواقفه الأيديولوجية. فغالبًا ما تكون مبهرة ومربكة ومخيبة للآمال وفي بعض الأحيان تنفر المؤيدين والمنتقدين على حدّ سواء، لكنه ظلّ ثابتًا في قناعاته وأفكاره، فعلى الرغم من وجود بعض الاعتراضات والتخويفات، ظلت برجماتية ديلاني السياسية معه طوال الوقت، فبدَّل المواقف والولاءات كلما رأى ذلك من الحكمة السياسية.
فبالنسبة إلى ديلاني “لم تكن المحافظة والراديكالية أيديولوجيتين مقدستين، بل كانتا خيارات مَرِنَة لتعزيز مصالح السود”، هذه المصالح “يجب أن تُمْلِي الأيديولوجيا وأن تكون لها الأولوية وليس العكس”. فيجب على “الفرد الذي يسترشد بتحديد ما هو في مصلحة المجتمع الأسود؛ أن يجرِّب بحرية ما بين الخيارات المحافظة أو الراديكالية”، ويجب “أن يعرف الزعيم الأسود الفَطِن وصاحب الدهاء متى تُمْلِي عليه هذه البرجماتية تغيير المواقف الأيديولوجية”. فهو لم يكن قَلِقًا فيما يتعلق بما يشعر به الآخرون حيال اختياراته، ولكن ما إذا كانت تلك الخيارات تعكس حقًّا قناعاته بشأن ما يعتبره في مصلحة السود. كما أعلن ذات مرة بأنه “لا يهتمّ كثيرًا بالسوابق، وبالتالي يتجاهل القواعد العبثية للشكليَّات”، ولكنَّ المرشد الحقيقي هو “ما يقترحه عليه ضميره، يراه في نور عقله”.
وعلى الرغم من أن برنامج ديلاني للقومية السوداء المستقلة بدا راديكاليًّا من حيث المبدأ، لكن عند تحليله من منظور إفريقي، فإن راديكاليته تختفي على الفور؛ فقد كان الهدف من إنشاء دولة مستقلة في إفريقيا “مناشدة” للضمير الأخلاقي للأوروبيين عالميًّا، وذلك من خلال إظهار القدرة السوداء على إقامة دولة، وبالتالي كان يعمل على إبطال القوة الأخلاقية للرقّ والعنصرية في الولايات المتحدة.
بعبارة أخرى، استنتج ديلاني أن الدولة السوداء الخارجية القابلة للحياة اقتصاديًّا من شأنها أن تروق للضمير الأخلاقي للبيض بشكل إيجابيّ، وبالتالي تفرض تنازلات لمطالب السود بالمساواة. بينما بالنسبة للأمريكيين، السود والبيض، بدت رؤية ديلاني القومية راديكالية وجريئة ومعادية للمؤسسة ومناهضة للهيمنة. ولا سيما الإدانة اللاذعة للرق والعنصرية؛ ومع ذلك بالنسبة للأفارقة الأصليين، الذين كانوا بمثابة الموارد “الطبيعية والبشرية” للقومية السوداء المستقلة؛ فلم تكن حلوله واستراتيجياته تقدمية، لقد ترسَّخت جذورها في البناء الإمبريالي الأوروبي للقارة، واستمدت منها أفكارها ومعتقداتها بأن القارة الإفريقية “مظلمة” و”متخلفة” و”بدائية”، أو مكان يُفترض أنه بحاجة إلى إصلاح شخصيّ وأخلاقيّ؛ أو ما اصطلح عليه بالحضارة.
ختامًا:
إن مارتن ديلاني مثله مثل القوميين المعاصرين له؛ تصوَّر أن المهاجرين الأمريكيين السود يذهبون إلى إفريقيا للمساعدة في “حضارة” السكان الأصليين “المتخلفين والبدائيين”. كان حل ديلاني منسجمًا مع النظرة الإمبريالية للعالم الأوروبي، وليس معارضًا لها. لذلك بدا ديلاني بالنسبة للأفارقة الأصليين رجعيًّا؛ فهو أمريكي أسود “محافظ”؛ وإمبريالي، مثله مثل غيره من القوميين السود البارزين، لم يتعامل بشكل مباشر مع الإمبريالية الأوروبية.
وبدلًا من ذلك سعى إلى التكيف مع الأيديولوجية الإمبراطورية، وبدا حريصًا على العمل جنبًا إلى جنب مع الأوروبيين في “مهمتهم الحضارية”. ولكنَّه أيضًا كمُفَكِّر استطاع أن يُطوِّر حركة “راديكالية” ضد العنصرية الأمريكية وعدم المساواة، والتي تنازل عنها على المسرح الدولي عندما كان يغازل الأجندة الإمبريالية الأوروبية، فلقد فقدت حركته “الراديكالية” المناهضة للعنصرية والمناهضة للمؤسسة قوتها من أجل دولة سوداء مستقلة؛ لأنها استوعبت وأصبحت متشابكة مع الأيديولوجية الإمبريالية الأوروبية العنصرية.