ماركس العثماني، لورد بايرون اليوناني

0 66

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم 

.

أكثر سوء الظن المسلم بالماركسية كفكر هو ما أملاه الغرب علينا. فليس فينا من جعلها موضوعاً

مستقلاً للبحث في سياقها الأوربي وكنف ثقافاته جمعاء. فحتى الشيوعيين عندنا لم يتجاوزوا “عموميات الماركسية”، في قول أستاذنا عبد الخالق محجوب، بعد أكثر من نصف قرن. ويقصد بذلك أنهم تبلغوا بعض نصوصها العامة ضد الاستعمار، وبالطبقة العاملة والاشتراكية، وخاضوا بها نضالاً عملياً شاقاً وناجحاً. ووقفوا دون خوض لجج الماركسية العميقة.

تجد الصفوي المسلم يتشدق بمأثرة رموز في الغرب طعنوا الإسلام طعنة نجلاء بينما يلعن ماركس الذي لم يخرق خرقهم. وضربت في كلمة مضت مثلاً باستهجاننا لماركس وشغفنا بفولتير شاتم الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. وأعرض في هذا المرة لموقف كل من لورد بايرون، الشاعر الإنجليزي الرومانسي المبجل، وماركس من الدولة العثمانية. فبينما خرج لورد بايرون مناصراً لاستقلال اليونان عن العثمانية تجد ماركس قد وقف بجانبها في الصراع الدولي الناشب وقتها. ولست أريد هنا شجب لورد بايرون لوقوفه مع حق اليونان في التحرر من قبضة العثمانيين. فقد تحررنا نحن أنفسنا منها بالمهدية كما لا يحتاج إلى تذكير. ولكن كيف يعطر لورد بايرون حياتنا بالشعر ولا نذكر له، وهو الإنجليزي القح، “بن لادن”يته التي لم تقف الحدود السياسية دون شوقه لحرية اليونان من العثمانيين ولا نذكر لماركس وقفته مع العثمانيين على ضوء تحليله للوضع العالمي؟

كانت الدولة العثمانية في مهب الرياح الغربية. واتخذ ماركس في هذه الناحية موقفاً معارضاً لبريطانيا لتحالفها مع روسيا ضد الدولة العثمانية. وصدرت مقالاته في هذا الشأن في كتاب عنوانه “المسألة الشرقية” أبدى فيها تعاطفاً مميزاً مع الأتراك وشعوب القوقاز المجاهدة للروس. فهاجم ماركس في جريدة التربيون (2 سبتمبر 1853) الشحناء العرقية ضد الأتراك والإسلام التي قد تتذرع بها تحركات بريطانيا العدوانية ضد العثمانيين. فقال: “تنامى خلال العقدين الأخيرين اعتقاد بأن الأتراك متطفلون على أوربا فلا دار لهم فيها. (فدارهم في اعتقاد الأوربيين) هي آسيا وأن المحمدية (الإسلام) لا يمكن لها التعايش مع الدول المتحضرة” (أعمال ماركس وإنجلز الكاملة مجلد 12، 231). وما تزال أوربا اليوم تطرد تركيا العلمانية-المحمدية من حظيرتها طرد البعير الأجرب. كلام ماركس ما وقع واطا بعد قرن ونصف.

أما لورد بايرون فوقف مع استقلال اليونان من العثمانيين وقفة ذكرتها له اليونان فجعلت من يوم وفاته في 19 إبريل 1824 عيداً للهيلنية والتضامن الأممي. والهلينية (صفة الإغريق القدماء) هي الهوية التي اتصف بها اليونانيون المعاصرون منذ القرن التاسع عشر. فلو ذهبت اليوم إلى النادي الإغريقي على شارع الجمهورية قرب المشرق (فندق الشرق قديماً) لوجدت “الهلينية” في اسمه. ونسبة اليونان المعاصرة للهيلينية الإغريقية مدعاة. وأضفاها الأوربيون غير اليونانيين مثل لورد بايرون عليها لأنهم يريدون نسباً للأغاريق القدماء عن طريقها. وأقول باختصار لو كان اليونانيون هيلنيين فالجعليون عباسيون. والحمد لله.

لم يكن بايرون شاعراً غَرِداً يحمس للحرب العادلة بالعبارة. كان “إرهابياً” بن لادنياً “عديلاً” في فهمنا المعاصر للإرهاب. فهو لم يعتقد في الحق اليوناني فحسب بل موّل حربها، وهو المستطيع، بسخاء. وجاء بنفسه إلى حومة الوغي ليدرب جيش التحرير اليوناني. مثلاً: كان عليه مرة أن يشرف على تدريب 600 جندي مع متطوعين من الغرب، ويتكفل بإطعامهم، وعلف حصنهم. وتنزل لحد العناية بحاجتهم الجنسية. وأنفق على ذلك 2000 دولاراً في الأسبوع. وليس غريباً بالطبع لمن انفق وعاني مثله في أحراش يونان القرن التاسع عشر أن يخلص إلى أن “الثورة لا تصنع بماء الورد”. ومات بالملاريا في غمرة كل ذلك شهيداً مذكورا. ومتى درسنا بايرون الآن اقتصرنا على شاعريته البليغة ورومانسيته الغراء (المولعة بالإغريق القدماء والإلياذة الهومرية) وربما مثليته الشاطحة. أما عن بن لادنيته ضد العثمانيين. . . فلا.

لا أريد أن يفهم القارئ كما تقدم أنني أعيب على لورد بايرون مناصرته لليونان حتى استقلت من الاتراك. ولكن أعيب على إسلاميين ما جاء ذكر بايرون هادم الخلافة استساغوه على اعتقادهم ما يزال في شعيرة الخلافة السياسة. وبكوها بدموع شعر شوقي:

ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح

الهند والهة ومصر حزينة تبكي عليك بمدمع سحاح

والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح

أما ماركس الذي ذب عن الخلافة غوائل بريطانيا وروسيا فلا بواك عليه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.