ما الذي أنعيه على سياسيينا (٣)

0 113
كتب: د. الباقر العفيف
.
“وإذا الموءُودة سُئِلَت بأي ذنب قُتلت”
مقدمة
في الحلقتين السابقتين أوضحت القضايا الجوهرية التي كان من المفترض أن تؤرق أعين قادتنا السياسيين. وكذلك أبنت كيف انصرفوا عنها إلى صراعات صغيرة غير جوهرية تتعلق بالمكاسب الحزبية والشخصية الضيقة حول فتات السلطة. تكلمت عن قوى إعلان الحرية والتغيير كتحالف كبير وعجز قادته عن إ دارته بما يحقق المصلحة الوطنية الكبرى. وهنا أتناول هذه القوى بالتفصيل بدءا من أكبرها حجما وأكثرها إثارة للمشاكل وأبلغها إلحاقا للأذى بثورات شعبنا تاريخا وحاضرا.
السيد الصادق المهدي أمة وحده
كتبت سابقا عن الدور الذي لعبه حزب الأمة بقيادة السيد الصادق المهدي في تقويض حكومة الأستاذ سر الختم الخليفة، ونسف جبهة الهيئات عقب ثورة أكتوبر ١٩٦٤. والآن بعد ست وخمسين عاما على إجهاض ثورة أكتوبر، وبعد أن التصق الحزب بشخص الصادق المهدي التصاقا سياميا، حتى صار هو الحزب والحزب هو، يواصل ذات الزعيم مهمته التاريخية في وأد الثورات السودانية. كأنما للسيد الصادق المهدي ثأرٌ مع حكومات الفترات الانتقالية ومع تطلعات هذا الشعب في الانعتاق من ربقة الفقر والجهل والخوف.
فبعد عام كامل من المناورات ولعبة الكديس والفار مع قوى إعلان الحرية والتغيير، والضغوط المستمرة على رئيس الوزراء والشق المدني من الحكومة الانتقالية. والمغازلة الدائمة الفجة للعسكر وإرسال القُبَل وصور القلوب النابضة نحوهم في كل مناسبة وبغير مناسبة. وبعد إطلاق العديد من الإشارات المتناقضة، وبالونات جس النبض، أكمل السيد الصادق المهدي عِدَّته، وخرج من بيت حبسه، وخلع عنه عباءة المواقف الرمادية التي ظل يتدثر بها منذ ثلاثة عقود، وأسفر عن وجهه الأصلي، وجه صادق الستينات “العروبوي” “الاسلاموي”، على وزن “العلمانوي”. بعد أن جعل من “وي” سُبَّة يدمغ بها العلمانيين، ولا تختص بها جماعات الإسلام السياسي وحدها.
أعلن السيد الصادق عن عزمه تشكيل تحالفه الجديد “تحالف القوى الوطنية الديمقراطية” الذي يقوده هو. “ويُرجَى أن تدعمه قوى إقليمية عربية وأفريقية” بحسب عباراته. يجيء هذا الإعلان مباشرة بعد عودته من دولة الأمارات العربية المتحدة مما يعني أن صفقة قد أُبرِمَت برعاية هذه الدويلة الغنية ذات الطموحات الإقليمية الكبيرة والتي تريد أن تُبقِي السودان ضمن نفوذها، ورهن إشارتها، ومستودعا للمرتزقة الأرقاء الذين يخوضون لها حروبها ويموتون بدلا عن رعاياها.
دشَّن السيد الصادق تحالفه الجديد الذي لم يفصح لنا عن أعضائه صراحة بعد، لكنه على التحقيق سوف يضم تلك القوى التي ظل هو يُرَدِّد على الدوام أنها “تستحق المشاركة في المرحلة الانتقالية ولكن أقصتها قوى إعلان الحرية والتغيير”. ونحن نعرف أن هذه القوى هي المؤتمر الشعبي، ومجموعة الإصلاح التي يقودها غازي صلاح الدين، وبقية الفلول من أحزاب الفكة التي كانت تدور حول المؤتمر الوطني وتتزاحم على التقاط فتاته حتى احدودبت ظهورها. وبالطبع من المتوقع أن تنضم له عضوية الوطني غير المعروفة، وجماعة نصرة الشريعة وجميع أعداء الثورة.
الصادق والطموح لوراثة الحركة الاسلامية
ربما ظن السيد الصادق المهدي أن اللحظة التاريخية لتحقيق حلمه الكبير في “توحيد أهل القبلة” في السودان تحت زعامته قد جاءت. فقد غَيَّب الموت خصمه اللَّدود وصهره الذي نازعه الزعامة الدينية والسلطة الزمنية وألحق به الهزائم المتلاحقة في ميدانيهما كليهما. ولم يمنعه حياء ولا خلق ولا دين ولا حتى أصالة السودانيين التقليدية، التي تُعِزُّ النسيب الحسيب، من نزع سلطته منه وإهانته وإذلاله وابتزازه وتمريغ كرامته في التراب.
لقد أصابت ثورة ديسمبر الحركة الإسلامية في مقتل تاركة عضويتها في حال من الشتات والحيرة والإحساس باليتم. وبرغم هزيمتهم الأولية إلا أن الأموال التي نهبوها والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات ما زالت بحوزتهم مخفية أكثرها خارج السودان وبقيتها بالداخل. وهم يعلمون أن الثورة وراءهم وأنها بالغةٌ أمرها باسترداد أموال الشعب منهم إن كُتِب لها النجاح ولم تُقتَل في المهد صبية. وكذلك يعلمون أن الصادق هو حبل نجاتهم المأمول في إنقاذ أموالهم المنهوبة.
أعلن الكيزان الزحف الأخضر وفشل فشلا ذريعا حتى صار مثار تندر. وحاولوا محاولات مستميتة لحشد عضويتهم للخروج في مظاهرات المتاجرة بالدين بدعوى إباحة حكومة “القحاتة” للخمور، فبارت بوارا عظيما. خرجت بضع مئات في مسيرات هزيلة وبائسة شَيَّعَها الشعب بعبارات “حرامية .. حرامية” التي كانت تنزل عليهم من حواف الشوارع وشُرُفَات المنازل “كحجارة من سجيل” فجعلتهم “كعصف مأكول”.
وهكذا ضُرِبت عليهم الذلة والمسكنة بعد أن لفظهم الشعب مثلما يلفظ الأذى من بطنه، وضاقت عليهم الأرض بما رَحُبَت، ولم يبق أمامهم سوى تلك المثابة الآمنة التي ظلت تنتظرهم على أحر من الجمر، مثابة إمام الأنصار، وأحضانه الدافئة. تهيأت الظروف المواتية لزواج المتعة والمصلحة بين الطرفين. فمن جانبه يوفر الصادق للإسلاميين الواجهة الجديدة التي يعملون من ورائها، والقناع الذي يضعونه على وجوههم عندما يخرجون مجددا للشوارع في معية نبيلة من جماهير الأنصار هذه المرة. أما هم فيوفرون له نصيبا من كنوزهم التي نهبوها من أموال الشعب، ومعلوماتهم السرية، ودولتهم العميقة، وتجاربهم المتراكمة في السرقة والنهب والقمع والخداع والتزوير و”الدسديس” و”الغتغتة” وإبقاء الشعب في ظل ذي ثلاث شعب، الفقر والجهل والخوف.
العقدة الدرامية
ظل السيد الصادق المهدي يمثل معضلة مستديمة للقوى السياسية التي تحالفت معه، وعقدة درامية تستعصي على الحل وتتحدي ويليام شكسبير أعظم مسرحيي الأرض. وشركاء الصادق يعرفون عنه أنه لا يرضى بغير رياسة التحالفات التي يدخل فيها. وهم على استعداد ليجعلوه رئيسا لولا خوفهم من عزفه المنفرد، ومن سوقهم لأحضان الإسلاميين والعسكر، مما يعرف في أدبياتنا “بالهبوط الناعم”. والهبوط الناعم ذاته خشم بيوت، أو قُل هو مَدَىً يمتد بين قطبين. فيه قطب يلامس الثورة وفيه قطب يلامس الكيزان. والصادق يحتل الجانب الملامس للكيزان. وهو الجانب الذي يريد أن يحافظ على أكبر قدر من مصالح الكيزان الاقتصادية، ويعفيهم من المحاسبة على غالبية الجرائم، ما عدا تلك التي ارتكبتها قمة القيادة. ويحتفظ لهم بحق العودة للساحة السياسية في جلد جديد.
وفي الحقيقة حلفاء الصادق يرون أن أفكاره ومواقفه قريبة جدا من الإسلاميين. وهو معترف بذلك وله فيها تصريحات كثيرة قديما وحديثا. هذا بجانب ارتباطات التصاهر المعروفة والمصالح الاقتصادية المشتركة. كما لا يُخفى على الناس طموح السيد الصادق لوراثة الإسلاميين، كوادر وإمكانات اقتصادية كما سلف ذكره. وتاريخ تحالفات السيد الصادق كتاب مفتوح لمن يريد أن يقرأ التاريخ ويعتبر به. وهكذا تجد القوى السياسية السودانية نفسها بإزائه بين نارين. فالصادق من ناحية رقم يستحيل تجاوزه. ومن الناحية الأخرى من الصعب الثقة به والركون إليه. فقصة الصادق مع حلفائه ينطبق عليها القولة الشعبية الرائجة “كان شالوه ما بنشال. وكان خلوه سكن الدار”. أو “لا بريدك ولا بحمل بلاك”. وفي تقديري أن هذا ما حمل الدكتور منصور خالد ليصفه بالشخصية المأساوية.
نواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.