ما عندنا مشكلة

0 66

كتبت: سهير عبد الرحيم

قبل حوالي شهر تقريباً سافرت إلى محلية الكاملين بولاية الجزيرة ، قاصدةً قريةً اسمها ( التكلة أبشر ) ، الرحلة كانت بغرض تصوير فيلم وثائقي عن حادثة إنقلاب مركب التلاميذ بمنطقة المناصير بالشمالية والتي راح ضحيتها عدد ٢٣ تلميذ .

عم عمر والد الخمس طفلات اللائي غرقن دفعة واحدة في منطقة البحيرة بالمناصير ، هاجر من أحزانه بالمناصير و حط رحاله بهذه القرية الوادعة . عله يغسل أحزانه و يكفكف دمعه بعيداً عن ذكريات إنقلاب المركب بصغيراته.

المصور المحترف صاحب العدسة الساحرة و المختلفة الأستثنائي أشرف إبراهيم

 

سافرت إلى القرية و كنت بمعية مخرج الروائع و حاصد الجوائز الأقليمية والدولية في مجال الأفلام الوثائقية المخرج سيف الدين حسن و المصور المحترف صاحب العدسة الساحرة و المختلفة الأستثنائي أشرف إبراهيم مدير التصوير بقناة الجزيرة القطرية و الصبي عبدالله ابن المخرج سيف حسن .

كان بصحبتنا أيضاً دليلنا في الرحلة الأستاذ عبدالرحيم علي البصيري والد الشهيدة فائزة الحاصلة على درجة الماجستير في الفيزياء الطبية والتي كانت بمعية التلاميذ وغرقت في النهر أيضاً ، انضم إلينا لاحقاً الباحث و الصحفي المميز و المثابر صديق دلاي .

توجهنا جميعنا صوب ولاية الجزيرة ونحن نقتفي أثر عم عمر ، وصلنا القرية منتصف النهار وكان في استقبالنا عم عمر و زوجته و والدتها و ابنتيهم و عدد كبير من الجيران .

و على الرغم من وصولنا متأخرين إلا أننا وجدناهم ينتظرونا بوجبة الإفطار التي بدا واضحاً أنهم قد نحروا ذبيحة لمقدمنا و هي عادةً متأصلة و متجذرة في كل ولاية الجزيرة ، إنهم قومٌ إكرام الضيف لديهم فرض عين .

الأمر كان أكبر من الإحتفاء بفريق عمل فني ، كان تظاهرة من الأطفال قبل الكبار و من النساء قبل الرجال ، يكفي أن تطلب شيئاً لتجد الكثير من الأقدام المسرعة لتلبيته و الأيادي الممتدة و الابتسامات المشرعة بالبشاشة و الترحاب و كثيرٌ من الدفء رغم برودة الطقس.

مواطنين من التكلة أبشر

 

جيران عم عمر الأستاذ أشرف عثمان صالح و زوجته سماح العشاري و ابنائهم أمنية و عثمان و سامي و سارة و ساجدة و محمود … جميعهم كانوا عبارة عن تيم واحد يقف على أمشاط أصابعه لخدمتنا فتجد الطعام و المثلجات و الحلويات و الشاي و القهوة تتسابق إلى منضدتك دون أن تترك القهوة سبيلاً للحلويات أن ترتاح في معدتك ، كل يداهم الآخر ، ثم يعزمونك على عشرة ونسة و يتركون حساب الضحكة عليهم أو كما قال أحدهم .

 

مكثنا هنالك يوم ونصف ، أنجزنا خلالها تصوير القضية على شفاه أصحاب الوجعة ، صّورنا في البيت و جلسة شاي المغربية و أزقة القرية و الزريبة و على شاطي النيل …..

استوقفتني بشدة ملاحظة أن الأسرة فقدت أطفالها في البحر ثم هاجرت بعيداً عن الذكريات ولكنهم سكنوا مجدداً على ضفاف النهر ، حين سألت عن ذلك والدة الشهيدات حليمة أجابت بعبارة مدهشة حقاً ( نحنا ماعندنا مشكلة مع البحر) .

يا إلهي ….!!! كيف بلغت هذه السيدة مرحلة هذا التسامي و التسامح والعلو على الأحزان لتجلس على ضفاف النهر و تنظر إلى مياهه دون كدر أو ضيق ، دون غضب أو حنق رغماً عن أنه من ابتلع صغيراتها الخمس دفعة واحدة .

أو كما قال الفنان المبدع محمدالنصري أتغابى ماراعى الولف صادالبنيات بي غدر ، ……..

لم يكن عم عمر بعيداً من ذلك السلام الداخلي الذي تعيشه زوجته … عم عمر لا ينفك يردد و باستمرار ( الحمد لله ….الحمد لله ….نلاقيهن قدام …مشن للأفضل مننا ) .

كنت أفكر كلما نظرت إلى هذا الرجل كيف أن أحدنا يسوء يومه و يفسد مزاجه ولا يستطيع التركيز في عمله إن أرتفعت درجة حرارة ابنه ، فكيف بعم عمر أن يفقد خمسة من أطفاله في نفس اللحظة و يظل بكل هذه القوة و رباطة الجأش و اليقين ….

خمس طفلات دفعة واحدة ريهام ١٣ سنة فاطمة ١١سنة توسل ١٠سنوات ريم ٩ سنوات جواهر ٧ سنوات ….جميعهن يتبددن ويتسربن من بين يديه وتغيب معهن الضحكة و الونسة في أرجاء المنزل احداهن تلعب و اخرى تمشط شعرها و تطلق لضفيرتها العنان و ثالثة تستذكر دروسها ورابعة تقف الى جانبه في الزريبة و الخامسة تتذوق الحساء لوالدتها لتخبرها أنه يحتاج القليل من الملح ..!!

كل هذا يتبدد وعم عمر لا تلبث كلمة الحمد لله أن تفارق فمه لحظة ويجيبنا حين نسأله عن حاله فيقول بكل هدوء ( حمداً يقسّمو منو ) ….!!!

إن أسوأ لحظات التصوير التي مررنا بها في قرية التكلة أبشر حين أتى عم. عمر بشهادات الأرقام الوطنية للصغيرات….!!! ، بدا واضحاً اهتمامه بالأوراق الثبوتيه حيث غُلفت كل شهادة على حدا بلاصق بلاستيكي لحفظها ، بيد أن الوثائق والوريقات تبقى وتفنى الأرواح

شقيقة الصغيرات الكبرى أتعبت قلوبنا كثيراً بالبكاء أثناء التصوير ، و بدا واضحاً أن ملابس شقيقاتها في خزانة الملابس و أن تم توزيعها و بقايا دفاتر المدرسة و قفص الدجاج و شجرة الليمون التي كن يرعيانها.

ثم أسرّتهن في الحوش الفارغ من مرحهن و ضحكاتّهن من فوق أغطية العشم ، بدا واضحاً أن الذكريات لا ترحل ولا تموت حتى و إن غير النهر مجراه .

خارج السور :

مازالت المراكب في المناصير تنقل التلاميذ و المواطنين إلى الضفة الاخرى و مازالت تفتقر إلى أبسط قواعد السلامة والأمان ….و مازال الموت يتكيء على القيفة ينفث لفافة الخذلان لأهل المتاصير ويدبج الخبر القادم عن غرق مركب آخر بتلاميذ المدارس …في رحلتي الشتاء و الصيف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.