ما وراء الحكاية.. إفطار بدر وظهور عطا وكرتي

0 74
كتب: فايز الشيخ السليك
.
بعد ساعات من رحيل الأمين العام للحركة الإسلامية الزبير احمد الحسن، أرسل الفريق محمد عطا، رسالةً صوتية في بريد حركته يختتمها بدعاء مقصود بضمير الجمع ” أن يقيل عثرتنا، وينقذ بلادنا ويلطف بشعبنا دينه ومعاشه، اللهم اخرجنا من حَولِنا الى حَولك، ومن ضعفنا الى قوتك، ومن انكسارنا إلى عزتك، ومن ضيق اختيارنا الى براح ارادتك”، جاءت الإشارات الأمنية متزامنةً مع تكليف الهارب من العدالة أحمد علي كرتي، أميناً عاماً لذات الحركة التي جثمت على صدر الشعب ثلاثين عاماً عجافاً قتلاً وزنازيناً وفساداً.
تأتي التحركات في وقت غرق فيه كثيرون في معركة ” ذات الإفطار”؛ وليس من حقنا مصادرة حق الناس في ابداء مشاعرهم/ن فيما حدث، فمن فرحوا لفض الإفطار بالقوة، كانت ذواكرهم/ن محتشدة بتفاصيل آلام عصية على النسيان، فصول أوجاع رمضانية غرس نصالها داخل قلوب آلاف الأسر بعض الذين يدَّعون الطهارة والنقاء اليوم، وهم من كانوا يدهسون كل من يحاول كبح جماح شهوة السلطة فيهم، وشره الجاه عندهم.، لن يترددون في إراقة دماء المعارضين لهم وفق شعارهم الإرهابي الشهير ” ولنعد للدين مجده، أو ترق منا دماء، أو ترق منهم دماء، أو ترق كل الدماء”.
في ذات سياق معركة ” ذات الإفطار” التي أراد لها الإسلاميون أن تكون متزامنة مع ذكرى معركة بدر الكبرى لإضفاء قداسةً على ” المناسبة السياسية”، و لا لوم على ” الديموقراطيين” الذين أبدوا مخاوف، وقلق من التصدي للمناسبة بالغاز المسيل للدموع، فمن وجهة نظرهم فإنهم يخشون من أن تلقي طريقة الفض بظلال سالبة على الحريات، لا سيما وأنَّ الحرية كانت أحد أضلاع مثلث شعارات ثورة ديسمبر المجيدة ” حرية سلام وعدالة”.
تحتشد كل المدن والأرياف يومياً بملايين الصائمين، وتضجُّ الطرقات بمئات الآلاف من متناولي الافطارات في الأحياء والفرقان، وبالتجمعات التي تستهدف عابري السبيل لتستضيفهم بإفطار رمضاني بنكهة الحلو مر ، تعبيراً عن تقاليدنا االراسخة، كما تمتلئ ” مسايد ” الطرق الصوفية براياتها الخضراء يومياً بآلاف من الشيوخ، والحواريين لنقدم العصيدة بشعور صوفي نقي ، مثلما تشهد “ساحة الحرية” تجمعات الأصدقاء وزملاء الدراسة والعمل، وتسابقهم على تنظيم إفطارات جماعية مشبعة بمزاج ” الشلة” ومطَّعمة من سكر ضحكات الأصحاب”، ووسط هذا الارخبيل السوداني الفخيم؛ لا تسطيع الجماعات الدينية عزل نفسها، وإن كان الأمر ” بدعة ” فلا تظن أنها ضلالة تؤدي الى النار، بل تحرص جماعات مثل “أنصار السنة” على حضور هذا المولد السنوي، وتشارك في تنظيم مناسبات لعضويتها وأنصارها طوال الشهر العظيم.
لو أن حكاية ” غزوة بدر” ” كانت افطاراً رمضانيا” لتم تنظيمه والدعوة له من دون ضوضاء، ولما استبقته كبير دعاية صنعت منه حدثاً سياسياً، وقدمته طُعماً لاستدراج السلطة بغرض الصدام المباشر، لا بغرض اختبار ” استقامة قوى الحرية والتغيير، وموقفها من الحريات، وبقدر ما أرادت الجماعة المحلولة العودة الى المشهد السياسي عبر بوابتين؛ بوابة العاطفة الدينية، وبوابة قلب المواطن بالظهور بمظهر ” الضحية” المستضعف!
وللإسلاميين تاريخٌ مشهودٌ في صناعة الدراما باختلاق قصص، وتهويل بعض فصولها، واضافة كثير من “البهارات” بغرض الاثارة ولفت الانتباه والتشويق كالحديث عن بطولات ومآثر ” المجاهدين” في كابول، مع أنهم كانوا يتحركون تحت ظلال نيران المدفعية الأمريكية وطائراتها لمحاربة قوات الاتحاد السوفيتي الشيوعية أيام الحرب الباردة!.
ويصنعون ويسوقون أساطير المضللين على طريقة ” أكشن” برنامج ” ساحات الفداء” في غابات جنوب السودان كأنها حقيقة! فلا تتردد الآلة الدعاية من ضخ حكايات مشاركة القرود في حرب الجنوب، ومثابرتها في عملية إزالة الألغام من طريق الجنود، وروايات الغزالة المسلمة التي تأتي وديعةً خفيفةً، تناجي المجاهدين وتستلقي على ظهرها، وتقول لهم مولولةً ” أذبحوني اذبحوني أيها المجاهدون فأني الى بطونكم مشتاقة”، بل، وتزرف سخين الدمع حزينةً عند عزوف ” المجاهد رقيق القلب، رهيف الشعور” كي تستدر عطفه ويستجيب للنداء، فيضطر مجبراً لا بطل؛ كي يذبحها بسونكي بندقيته التي لا تتردد في اطلاق حمم الموت على البشر هناك مدنيين وعسكريين!.
وللإسلاميين كذلك القدرة على اختطاف المشهد العام، فعند ثورة أكتوبر المجيدة عام ١٩٦٤، لا يذكرون إلا لحظة صلاة الشيخ حسن الترابي على جثمان الشهيد القرشي في ميدان عبد المنعم، يقتنصون لقطة خاصة، وينتزعونها من ألبوم كامل للصور مثلما ربطوا انتفاضة أبريل ١٩٨٥ بدخول قياداتهم في سجون النميري، وللمفارقة كانوا شركاء في الحكم المايوي لمدة سبعة أعوام بنوا فيها مصارفهم وجمعوا أموالهم، واخترقوا خلالها القوات المسلحة استعداداً لانقلاب الـ ٣٠ من يونيو المشؤوم!.
ويستمرون بذات الأسلوب الانتقائي حتى مع ثورة ديسمبر المجيدة، والقريبة، والتي كانوا يسبحون ضد تيارها، بل يقفون في ذات خندق المخلوع عمر البشير، لكنهم – عادات وتقاليد- يسعون لاختطاف مشاركة مجموعة غاضبة من شباب “المؤتمر الشعبي” في الحراك الثوري، واعادة تسويق الحدث، كأنه مشاركة إسلامية خالصة في التغيير، بل ويمضون أكثر من ذلك فنسوا كل الشهداء الكرام، واسموا الشهيد أحمد الخير، سيد شهداء الثورة، مع كامل الاحترام والتقدير والوفاء له، ومعروف أن للثورة عشرات الشهداء إلا أن الإسلاميين لا يذكرون إلا ” الخير” الذي استشهد بأيدي زبانيتهم!، وفاضت روحه بفعل تعذيب ” اخوة الإيمان”! وفي ذات الثورة اقتحم جندهم البيوت، ونكلوا بالنساء والرجال والأطفال، وجرحوا الآلاف من الشباب والشابات، إلا ان ” انتقائية الإسلاميين” صوَّرت الشاب هشام الشواني، بعد اصابته برصاص أمنهم وكتائب ظلهم كأنما كان هو الجريح الوحيد في تلك المظاهرات الطويلة، ولا أود الانتقاص من مشاركته، وكان يمكن أن يكون شهيداً، نعم شارك عشرات من شباب الشعبي، ومجموعة غازي صلاح الدين، في المظاهرات انجرافاً مع الأمواج الثورية الهادرة، وتمرداً على تكلس القيادة.
إنَّ القضية أكبر من دعوة إفطار، بل هي قضية سياسية، وبدلاً من أن نغرق في تفاصيل صغيرة للصورة الكاملة، وننسى جوهر الفكرة، يجب النظر الى المشهد نظرة شاملة، لا العمل على أن نرى شجرة فتحجب عنًّا رؤية كل الغابة”.
كان الإفطار مجرد شجرة، وسط غابة كثيفة تتمثل في وجود دولة موازية، ومحاولات اختطاف المشهد من جهة، وضعف أداء قوى التغيير التنفيذية والسياسية من جهة أخرى، لقد ترك هذا الوضع فراغاً سياسياً كبيراً، يضاف إلى حالة تلكؤ بائنة، والتفاف حول تكوين مجلس تشريعي فاعل يؤدي الأدوار التشريعية والرقابية.
هناك أيضاً بطء اجراءات تحقيق العدالة و محاكمة مرتكبي انتهاكات حقوق الانسان وجرائم الحرب، وقتل المعارضين والمتظاهرين والمعتصمين، عوضاً عن محاسبة المفسدين في جرائم السطو على المال العام، لا شك أن طريق العدالة بشقيها الجنائي والانتقالي عملية معقدة وطويلة إلا أن الثوار في انتظار رسائل تبعث الطمأنينة في القلوب والتأكيد على استحالة افلات الجناة من العقاب، وتخطط الطغمة الانقاذية لتجيير ملف العدالة لصالحها حتى يطول أمد الانتظار فتضمن من جهة نجاة قياداتها من المساءلة، واضعاف إيمان الثوار بمبدأ تحقيق العدالة من جهة أخرى.
ليس غريباً وسط هذه الأجواء أن يعمل محمد عطا، وعلي كرتي، على اعادة عقارب الساعة للوراء، وأن يسعيان للتواصل مع عناصر من المغامرين للعمل على تخريب المشهد السياسي والعبث به، وتهيئة المناخ لتدبير انقلابٍ عسكري يقطع الطريق أمام التحول الديموقراطي، ويحمي الفاسدين والمجرمين من المساءلة والمحاسبة، وليس غريباً ربط ظهورهما بالحديث عن مساومة تعيدهما إلى المعادلة السياسية.
سوف يسعى الذين لا يتحملون الفطام من ثدي السلطة لزعزعة الفترة الانتقالية بكل السبل، سوف يسعون للتسلل مثل النمل الى عيوننا عبر عدة منافذ، سوف يلعبون على واقع تعدد تكوينات الفترة، وسيغازلون العسكر، وسيتواصلون مع إسلاميين داخل مؤسسات نظامية، وسيعملون على دق اسافين بين المكونات الانتقالية، ويثابرون من أجل استغلال حالة الهشاشة الأمنية والتراخي والتساهل.
يقيني الدائم ان ديسمبر ” ثورة عميقة” لكنهم يستهدفون هذا العمق كي يعزلوا الفترة الانتقالية عن محيطها، وتجتهد آلة إعلامية ضخمة في بث اشاعات وفبركة أخبار، ونشرها عبر وسائط التواصل الاجتماعي بهدف غرس اليأس والإحباط في نفوس الثوار حتى تسقط ” الفترة الانتقالية ” دون أن تجد عليها بواكي”. وبلا شك فإن هذه الآلة تتزود في حركتها من وقود يوفره لها أداء مكونات الفترة الانتقالية طالما ظللنا ننظر الشجرة ولا نرى الغابة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.