متحفٌ في ذكرى مجزرة القيادة

0 157
كتب: د. النور حمد
بنهاية شهر رمضان المبارك تمر علينا الذكرى الأولى لمجزرة القيادة البشعة، التي خطط لها شيبٌ وكهولٌ لقتل شبان وشابات في ميعة الصبا والشباب. شبانٌ وشابات غافلون، عُزَّلٌ، لا سلاح لهم سوى حناجرهم. في هذه الذكرى الأليمة، وبسبب غيرها من الفظائع التي ارتكبها نظام الإنقاذ، أود أن أقترح إنشاء متحفٍ لضحايا القتل والتعذيب. فالنسيان يمثل ركنًا أساسيًا في أن يعيد الفرد أو المجموعة من الناس، أو البلدان، التجارب المريرة. وترد في هذا المقام صيغٌ من عبارة شهيرة قالها أشخاص مختلفون، بصورٍ مختلفة، من بين تلك الصيغ: “من ينسون التجارب المريرة من الماضي معرَّضون لتكرارها”. من هنا تأتي ضرورة إبقاء الذاكرة الجمعية متقدة عن طريق التعليم وعن طريق الإعلام وعن طريق المتاحف والنصب المختلفة.
أقام اليهود متاحف مختلفة لضحايا المحرقة النازية المعروفة بـ “الهولوكوست” التي حدثت في ألمانيا وفي الأراضي التي احتلها النازيون من أوروبا. من أشهر هذه المتاحف متحف الهولوكوست في العاصمة الأمريكية واشنطن، الذي فتح أبوابه للزوار عام 1993، في عهد الرئيس بيل كلينتون. يزور هذا المتحف حوالي مليوني زائر سنويا. ويكرر اليهود، دائمًا، عندما يتذكرون محارق النازية عبارة تقول: ” لن نترك هذا يحدث مرة أخرى”، never again. ولو تركنا متحف الهولوكوست في واشنطن الذي كلف بناؤه 200 مليون دولار، ووقفت وراءه مؤسساتٌ كبيرة، ومعها أغنى أغنياء اليهود في العالم، وتحدثنا عن جارتنا إثيوبيا، فإن فكرة إنشاء متحف للقتل خارج القانون وللتعذيب تصبح فكرة ممكنة التطبيق.
زرت قبل بضعة أعوام “متحف شهداء الرعب الأحمر”، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وهو متحفٌ متواضعٌ يصور سنوات الرعب التي عاشها الإثيوبيون تحت الحكم الشيوعي بقيادة منغستو هيلامريام الذي شغل الفترة من 1974 إلى 1991. يضم المتحف صورًا للناشطين الذين جرى قتلهم، وقصص قتلهم بتوثيق دقيق يشمل رصدًا للأحداث التي جرت في فترة الرعب الأحمر الرهيبة. هذا المتحف مفتوح للجمهور الإثيوبي ولزوار إثيوبيا. كما تجري زيارات للمتحف من طلاب المدارس. هذا النوع من المتاحف يبقي الذاكرة الجمعية للشعب متقدة. فقيام اختصاصيون محايدون بتوثيق جرائم القتل التي تمارسها السلطات خارج نطاق القانون، إضافة إلى ممارسات التعذيب، مأخوذة من أفواه الضحايا، ومن شهاداتهم المكتوبة، مع الشروح والصور، يفتح مجالا للتعليم الخلقي، كما يفتح بابًا لإبراء الجراح. ويصبح مثل هذا المتحف جهةً مرجعية، يمكن أن يؤخذ من المادة التي وثقتها، طرفٌ إلى مناهج المدارس، خاصة في مادة حقوق الإنسان، وما أصبح يسمى التربية المدنية civic education.
لقد لاحظنا جميعًا حرص من قاموا بمذبحة فض الاعتصام على محو الجداريات التي حاول بها شباب الثورة تخليد صور من استشهد من زملائهم. السبب أن هذه الرسوم تقض مضاجعهم وتؤرق ضمائرهم التي يريدون لها أن تظل نائمة. وما من شك أن في حرصهم على محو تلك الرسوم دلالةٌ بليغةٌ على قوة تأثيرها، المتمثلة في رسالتها الأخلاقية التي تصل إلى أعماق الضمير. فالتعليم الأخلاقي لا يتم بالوعظ، وإنما بالصورة والنصوص المزلزلة، التي تصل إلى أكثر النفوس كثافة، وأكثر القلوب والعقول إظلاما.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.