مداد القلم.. في قضايا الأدب والسياسة والتأريخ (2 من 6)

0 64

كتب: د. عمر مصطفى شركيان

.

ثمَّ ندلف إلى عمليَّة التقسم المخل لسكان القطر بين الشمال والجنوب، وهو التقسيم الذي أضرَّ بالقضيَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة في السُّودان منذ بواكير عهد السُّودانيين باستقلال البلاد العام 1956م. فلقد كانت هذه النظرة القاصرة للبلاد هي التي قادت إلى تفرُّق قوميَّاتها أيدي سبأ وضياع جزء منها. وقد تنبَّأ أحد آباء الاستقلال، وهو زعيم الحزب الاشتراكي الجمهوري إبراهيم بدري العام 1951م بأنَّ النَّظر إلى المسألة الدستوريَّة في السُّودان بين القطبين الشمالي والجنوبي، وذلك دون النَّظر إلى مناطق السُّودان الأخرى ذات التخلف التنموي والاقتصادي والاختلاف الثقافي في جبال النُّوبة ودارفور والأنقسنا والبجا، يعتبر نظرة يعتورها قصور سياسي، وقد لا يطول الزمن قبل أن يجد أهل السُّودان بلدهم يحترق بمشكلات سياسيَّة واجتماعيَّة. وبرغم من أنَّ قادة الأحزاب السياسيَّة لم يولوا الرجل اهتماماً أو أذناً صاغية حينئذٍ، إلا أنَّ قراءة الرجل للمستقبل قد صدقت العام 1983م ببروز الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان ومطالبتها بإنصاف أهل المناطق إيَّاها. ومع ذلك، لم يكن الرجل بنبي كما أخبرهم وهو في نفسه حسرات على حال السُّودان يومئذٍ من جرَّاء ما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل.
بيد أنَّ مؤلِّف الكتاب إيَّاه في زعمه أنَّ “شمال السُّودان بصفة عامة أكثر تجانساً من الجنوب، واعتبار الإسلام واللغة العربيَّة قد ساهما في إحداث ذلك التجانس في الشمال”، لم يكن موفَّقاً في هذا الادِّعاء. إذ كان هذا ما وصفه الدكتور الراحل خالد الكد ب”توهُّم الوجود المتجانس” (الحياة، 9/11/1993م). فلا مريَّة في أنَّ هذا افتراض تعميمي وغير واقعي في حقيقة الأمر، فليس هناك ثمة تجانساً ثقافيَّاً أو لغويَّاً بين أهل الشمال النيلي مع سكان دارفور أو جبال النُّوبة أو الأنقسنا أو البجا في شرق السُّودان، وإذا كان الأمر كذلك فلم هذه الحروب الأهليَّة في الشمال نفسه! ألم تكن الهُويَّة المتمثلة في اللغة والدِّين إحدى عوامل عدم التجانس والاحتراب الأهلي! كما أنَّ رابطة التعاطف الثقافي في حد ذاتها ليست كفيلة بأن تخلق هُويَّة موحَّدة، ومن هذا المنطلق يتطلَّب منا العمل على بلورة مفهوم بديل أشدُّ قابليَّة للحياة والإجماع عليه.
ففي مسألة النزاع الاجتماعي قدَّم البروفيسور الكيني من أصول عربيَّة علي المزروعي ورقة في مؤتمر عُقِد العام 1968م بعنوان “حالات التَّهميش المتعدِّدة في السُّودان” تحدَّث في إطار الكلام عن قضيَّة الدِّين، ووصفها ب”المواجهة الأكثر إثارة في إفريقيا بين السلطة الإسلاميَّة المحليَّة، وبين المسيحيَّة ذات الطابع الاغترابي” (في إشارة إلى دور البعثات الأوروبيَّة والأميريكيَّة من مختلف الملل التي أدخلت المسيحيَّة في الجنوب). وفي إشارة البروفيسور المزروعي إلى الإسلام بأنَّه محلِّي لم يحالفه الحظ أبداً؛ فالإسلام عقيدة ذات طابع اغترابي أيضاً، وكان مبعثه في الجزيرة العربيَّة، ولم يكن السُّودان حينذاك أو اليوم تهامة أو نجد أو عسير، ولكن كانت عندنا في السُّودان ثمة عقيدة محليَّة ألا وهي كريم المعتقدات الإفريقيَّة، حتى المسيحيَّة فنجدها قد سبقت الإسلام إلى السُّودان. فقد دخلت المسيحيَّة إلى بلاد النُّوبة منذ القرن الأوَّل للميلاد وعلى يد مصريين اعتنقوا هذه الديانة من قبل، ونزحوا لهذه البلاد في القرنين الأوَّل والثاني هرباً من الاضطهاد الذي كان موجَّهاً إليهم ولا سيما في عهد الإمبراطورين الرومانيين تارجيان ودقلديانوس (284-305م). إذ نحن نندهش أيما اندهاش كيف فاتت على البروفيسور النحرير هذه الحقائق التأريخيَّة. أما في حال علمه بتلك الحقائق، وتفضيل الإعراض عنها، فهذا يعد نكراناً للتأريخ السُّوداني المعاصر، وإنَّ التغافل عنه أخذ يشي بمشكلات سياسيَّة واجتماعيَّة قادت إلى الحروب الأهليَّة التي ما زلنا نشهدها ونكتوي بنيرانها.

وللمقال بقيَّة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.