مشروع الاتفاق الإطاري للحركة الشعبية: عقاب الأربعاء

0 44

كتب: عبد الله علي إبراهيم

.

تكأكأت الأقلام الناقدة لمقترح الحركة الشعبية لجعل الأربعاء عطلة للسودان بدلاً عن الجمعة والسبت (والأحد للمسيحيين) في مشروع اتفاقها الإطاري مع الحكومة الانتقالية. ومؤكد أن الاقتراح مثير للاهتمام وجاذب مما يطلق عليه أهل الإنجليزية “سكسي”. ولكنه اقتراح لا خطر منه لأنه، من فرط عبثيته، أدنى للتسلية.

ما أزعجني مع ذلك من الاتفاق في جانب الهوية والثقافة هو ثرثرته. فلا يكاد كاتبه يعرف متى أوفى المسألة وكفى. وهي ملاحظة سبق لي قولها في نقد المذكرة المشتركة بين الفريق ركن البرهان والقائد الحلو. وهذا التزيد في القول من آثار خطابنا السياسي خلال الثلاثين عاماً وتزيد. فهو خطاب مطلق واحتجاجي لا أوتاد له في المصطلح أو التعريف ولا ضبط له في البلاغة بالكلام حسب مقتضى الحال. وبيئاته مثل أركان النقاش لا حول ولا قوة بالله. كنت بظهر واحد من تلك الأركان بجامعة الجزيرة يوماً وتيقنت أن مصابنا في الفكر جلل.

وسأعود لهذا الترخص في التعبير غداً إن شاء الله بعد أن أطرق أمرين في غير باب الهوية وددت لو لم يردا في الإطارية، أو لو حررهما الكاتب بأفضل مما وجدتهما عليه. فلم أر وجاهة مطلب الحركة أن يكون الحكم في السوان رئاسياً. فكنا في اليسار على خصومة مع هذا الترتيب الذي جاءنا أول مرة في ١٩٦٨ في ذيل الدستور الإسلامي الذي كانت القوى المحافظة تهرول بقراءاته في الجمعية التأسيسية. وكتب أستاذنا عبد الخالق محجوب في نقد هذا المبدأ على صفحات “أخبار الأسبوع”. ثم جرى تطبيقه الشائن كما هو معلوم في عهدي نميري والبشير. ولا أذكر أن خضع المبدأ إلى نقاش جدي في علمنا السياسي حتى نستبين خيطه الأبيض من الأسود. وصح في هذه الحالة أن يحال إلى مؤتمر دستوري يدلي فيه برأي من فوق نقاش وطني واسع. فلا عجلة إليه في ظرف اليوم.

ولم أستسغ دعوة الإطارية لوضع منهج للتربية الوطنية. فلربما لم نتهيأ بعد له ونحن ما نزال نتعثر في حرب الهويات لم نخلص إلى شيء منها. فأمريكا القديمة الرصينة يضربها في يومنا هذا خلاف حول منهج للتربية الوطنية معروف بالاسم “١٦١٩”. وأختار المنهج هذا العام لأنه العام الذي دخلت فيه أول شحنة رقيق للولايات المتحدة. ورمزية الاختيار في المنهج ماثلة في توجهه لإعطاء صوت لسائر “مهمشي” أمريكا من الأمريكيين الأفارقة إلى الهنود السيخ وما بينهما. والمنهج يناقض المنهج السائد المرموز له ب”١٧٧٦” وهو تاريخ استقلال أمريكا. والمنهج ١٧٧٦ صورة البيض والمحافظين لهوية أمريكا التي شكلها “الواسب” وهم الأنجلو-ساكسون البيض البروتستانت (جلابة أمريكا). وتتعرض النظرية التي من وراء “١٦١٩”، وهي نظرية العرق النقدية، إلى هجوم قاده الرئيس ترمب الذي رفض تمويل الحكومة الفدرالية لمشروع ١٦١٩، وكون لجنة من أكاديميين محافظين وغيرهم لنقض المشروع.

كان رأيي دايماً أن مثل طلابنا بغير حاجة إلى تربية وطنية مدرسية مما جربه نظام نميري ولا أدرى حيثياته. فكانت التربية الوطنية مما يتنسمه طلابنا من أحزابهم واتحاداتهم في مقاومة النظام الديكتاتورية. حدث ذلك في أكتوبر ١٩٦٤ وفي أبريل ١٩٨٥ وفي ديسمبر ٢٠١٨. لم ينتظروا من المدرسة تعليمهم حب الوطن. فهو حب يمارسونه في “الشوارع التي لا تخون”. وتحدثت إلى طلاب في جامعة الخرطوم مرة عن اتحاد الطلبة في حياتنا شباباً. وقلت إنه كان كلية جامعية أخرى لعلوم حب الوطن وممارستها “الضحى الأعلى”.

ووجدت الإطارية غمست قلمها في حبر المستبدين بمطلبها في “إعادة كتابة التاريخ”. وهو تفويض للدولة لكتابة التاريخ لا مكان له في شغل التاريخ والمؤرخ. وأول ما سمعنا بالمطلب كان في طيات الحركة الوطنية التي اعتقدت أن الاستعمار شوه تاريخ السودانا. ثم التقطه نميري في سياق عقيدته في الدولة الشمولية التي تكتب التاريخ كما تقيم الحزب الواحد. وأذكر أنني قدمت محاضرة في جامعة جوبا بجوبا في ١٩٨٠ في نقض دعوة إعادة كتابة التاريخ بعد ترويج لها في كتابات ملأت الصحف. ونشرت المحاضرة لاحقاً في مجلة “سوداناو”. وكانت حجتي أن التاريخ لا تعاد كتابته بل هو في عملية كتابة مستمرة أصلاً. ودواعي هذه الكتابة المستمرة إما ظهور أرشيف وثائقي كان غائباً، أو نشأة نظرية استحقت اختبار جدواها، أو طروء مزاج سياسي وثقافي كما في حالنا. والدولة في كل الأحوال تمتنع. وتقتصر على تمويل هذه الكتابة المستمرة للتاريخ حيث ينبغي في شعب التاريخ بالجامعات.

وحدثت لنا هذه الكتابة المستمرة للتاريخ في الستينات في مشروع لكتابة تاريخ المهدية أوحاه توافر أرشيف وثائق المهدية للباحثين بفضل جهود دار الوثائق القومية. وتضامنت على المشروع دار الوثائق بقيادة محمد إبراهيم أبو سليم مع شعبة التاريخ بجامعة الخرطوم بقيادة مكي شبيكة. وتنادى إليه طلاب الماجستير والدكتوراه أذكر منهم موسى المبارك الحسن ومحمد سعيد القدال وعوض عبد الهادي وعبد الوهاب محمد عبد الرحمن وميمونة ميرغني حمزة عشرات منهم من نشر رسالته ومنهم من بقيت رسالته بلا نشر.

بدا في حالات الجمهورية الرئاسية ومنهج التربية الوطنية وإعادة كتابة التاريخ في الإطارية أن الفكر الطامح للتغيير ما يزال أسير مصطلح النظم التي حاربها. فلم تستقل المعارضة خلال معارضة تلك النظم بفكر القطيعة الناجزة مع الثقافة المهيمنة. فتجد فكرها يأخذ منها (مثلاً إعادة كتاب التاريخ) هكذا عفواً ظناً منه أنه لا تثريب طالما كان المعارض هو الذي سيعيد كتابة التاريخ. وهكذا نخرج من معارضتنا للمستبدين بلا فكر نقدي لبنية الاستبداد جوه وبره. ويجعلنا هذا الفقد آيلين للأخذ من عقائدهم بوعي أو بغيره.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.