مفاوضات جوبا .. هل هي بحث مخلص عن سلام دائم؟ أم سعي محموم وراء المغانم؟
كتب: د. الباقر العفيف
(٢)
“إن ما خرجت تبحث عنه تركته وراءك في بسطام”
(الشيخ أبا يزيد البسطامي)”
المنبر التفاوضي الثاني
مقدمة
تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن المنبر التفاوضي الأول مع الجبهة الثورية. وخلصنا إلى أن هناك عيوبا في الشكل والمضمون. فمن حيث الشكل هناك قصور في تكوين الوفد الحكومي، الذي أُبعِدَت منه قوى الثورة متمثلة في الحكومة المدنية وحاضنتها السياسية في قوى الحرية والتغيير، ولجان المقاومة، والخبراء والأكاديميين. وكذلك في البعد المكاني والنفسي عن الشعب. ومن حيث المضمون هناك إشكالية في المقاربة التي تفتقد إلى الرؤية الاستراتيجية الشاملة لتحقيق السلام. كذلك أشرنا إلى أن المباحثات مع الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو تَعَثَّرتْ على صخرة طبيعة الدولة.
أصبح هناك اعتراف عام، حتى بين الإسلاميين وأهل النظام المباد، أن قضية الهوية تُمَثِّل واحدة من أعمق جذور الحرب، لدرجة أن المخلوع أفردها بالذكر وكَوَّن لها لجنة في حواره الوطني برئاسة الدكتور مضوي إبراهيم. وبطبيعة الحال، فإن إحدى تمظهرات قضية الهوية وجذور الحرب هي الدولة الدينية وتطبيق الشريعة الإسلامية التي كان غالب ضحاياها من المجموعات المهمشة.
كاتش توينتي تو
وجد أهل الأقاليم المهمشة أنفسهم فيما يسمى (بالكاتش توينتي تو) catch 22. وهذا تعبير انجليزي يصف حالة شبيهة بحالة “الوقوع في فخ”، أو أن تجد نفسك محاصرا بأوضاع تجعلك خاسرا في جميع الحالات. ولعل أدق ترجمة لعبارة كاتش توينتي تو هي بيت الشعر الذي يقول “ألقاه في اليَمِّ مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء”. فمثلا الطبقة الحاكمة التي ورثت الدولة السودانية من الإنجليز تَبَنَّتْ هويتها الثقافية الخاصة بها، وهي الهوية العربية الإسلامية، لتصبح هوية وطنية لجميع شعوب السودان. وحدَّدت من هذا المنطلق علاقتها بالجماعات التي لا تشاركها هذه الهوية بصورة تَحَكُمِْية. وجعلت من أهل الهامش هدفا لتغيير الهوية، عن طريق حملات التعريب والأسلمة وكذلك عن طريق تمجيد وترويج أنموذج الحياة الشمالي، أو ما أطلقنا عليه لفظ “الشمللة.
هذا من الجانب الثقافي. أما من الجانب الاقتصادي فقد ظل أهل الهامش هدفا للإفقار والتجهيل الممنهج، لتسهل السيطرة عليهم. وليبقوا في حالة تبََعِيَّة مُستَدِيمة، وتَطَلُّع دائم للانتماء لهوية الدولة التي تجيء معها الامتيازات.
أما من الناحية السياسية، فظل أهل الهامش يُشَكِّلون موضوعا لكل صور الاستغلال التي تتراوح من استغلال أصواتهم الانتخابية للوصول للحكم إبان فترات الحكومات الحزبية، إلى تجنيدهم في المليشيات التي تخوض حروبا رخيصة الثمن نيابة عن الطبقة الحاكمة ضد مهمشين آخرين مثلهم. أما إذا ما تجرأوا وتمرَّدوا على هذه الوضعية، فسوف تَشِنُّ الدولة عليهم الحرب الضروس وتقمعهم بلا رحمة.
هكذا تأسست علاقة الدولة بأهل الهامش على أساس أن هويتهم الأصلية لا تؤهلهم للمواطنة. وأن ما يفصل بينهم وبين المواطنة هي المسافة التي يقطعونها في مسيرة اغترابهم عن هوياتهم الذاتية واكتمال استلابهم. أي خلع هوياتهم الأصلية وتبني هوية الطبقة الحاكمة المُعَبِّرة عن المركز العربي الإسلامي. هذا من ناحية. أما من الناحية الأخرى فيُصْبِح أهل الهامش، بسبب تشوهات الفقر والجهل، الأكثر عرضة لسيف القانون. وهم لحظة دخولهم نطاق أجهزة إنفاذ القانون حالَ مَا يلتقون وجها لوجه بواحد من أكبر مظاهر الهوية العربية الإسلامية المتمثل في العقوبات الإسلامية، بالذات تلك المتعلقة بالسرقة، وبيع الخمور البلدية وشربها. كذلك يلتقون وجها لوجه مع العنصرية المؤسسية متمثلة في التعامل المتحيز للشرطة، والقضاء والسجون. وتجربة محاكم الطوارئ في أواخر العهد المايوي ما زالت محفورة في الذاكرة لأن الغالبية المطلقة من ضحاياها الذين جُلدوا وبُتِرت أطرافهم كانوا من فقراء الهامش. أما في عهد الإنقاذ فقد كان هؤلاء البؤساء هم الأكثر عرضة لمنظومة النظام العام، قانونا وشرطة وقضاء وسجونا. فغالبية اللائي يتعرضن لحملات شرطة النظام العام هن من نساء الهامش. وغالبية النزيلات بسجن النساء هن من نساء الهامش. والجريمة المتكررة في أغلب الحالات هي بيع الخمور البلدية أو بيع الأطعمة والشاي. وهذا ما نعني بالكاتش توينتي تو.
التكييف الاجتماعي
في علم النفس الاجتماعي يُستخدَم مصطلح “التكييف الاجتماعي والثقافي”. Social and cultural conditioning وهو أن تضع الدولة بسياساتها مجموعات سكانية معينة في وضع اقتصادي متدني ينتج أنماطا معينة من السُّلوك الاجتماعي والسِّمات الثقافية، وسط هذه المجموعات، تُجَرِّمُها الدولة. فمثلا في أمريكا تبلغ نسبة السكان السود حوالي ١٢.٦٪ من جملة السكان ولكن نسبتهم في السجون تبلغ حوالي٣٧٪ من مجموع المسجونين. بينما يشكل البيض غالبية السكان حيث تبلغ نسبتهم ٧٢٪، ولكن لا تتجاوز نسبتهم في السجون ٣٢٪.
وبطبيعة الحال فإن النسب العالية للجريمة وسط السود لا تعني أن الجريمة تجري في دمائهم وتختلط بجيناتهم بينما تضيق عنها مجاري دماء البيض. وإنما يعني أن الجريمة تتناسب تناسبا عكسيا مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي لهذه المجموعات. فبينما تنقص معدلاتها وسط المجموعات المحظية، التي تتمتع بوضع اقتصادي عالي أو جيد، تزيد معدلاتها وسط المجموعات المحرومة ذات الوضع الاقتصادي المتدني. ولما كانت سياسات الدولة الأمريكية تضطَّهِد السود تاريخيا، منذ عهود العبودية والفصل العنصري. ولما كانت وما تزال تحرمهم الحقوق والفرص المتساوية، عبر العنصرية المؤسسية. لذلك ترتفع بينهم نسب الفقر والفاقة والفاقد التربوي. فتضيق فرص العمل الشريف أمامهم وتتسع أبواب الجريمة من ترويج للمخدرات أو الانضمام لعصابات الجريمة المنظمة، هذا إن لم يكن الفرد موهوبا في الفن أو الرياضة. وماهي إلا مسألة وقت قبل وقوعهم في قبضة القانون. وهناك يلتقون وجها لوجه مع نظام قانوني مُصَمَّم للتعامل مع هذا النوع من الجرائم بقسوة بالغة، في حين يكون أكثر تسامحا ولينا مع جرائم الطبقات الوسطى والعليا، أو ما يسمى بجرائم الياقات البيضاء white collar crimes. وهكذا تكتمل دائرة الكاتش توينتي تو.
التشريعات والثقافة
راجت هذه الأيام مجموعة من التسجيلات لأنصار النظام البائد من الإسلاميين في هجاء ثورة ديسمبر المجيدة والقدح في وزرائها. ولفت نظري في بعض هذه التسجيلات إشارة أصحابها للدكتور نصر الدين عبد الباري، وزير العدل، بعبارة “وزير المريسة”. وذلك لأنه في محاضرة أو مداخلة سابقة له تحدث عن غربة المُشَرِّع عن المجتمع عندما يجرِّم فعلا يمارسه المجتمع كله، أو قطاع كبير فيه، من منطلق ثقافي أو كونه عادة اجتماعية. وضرب مثالا لذلك بصناعة وشرب المريسة بالنسبة لمجتمعات وثقافات سودانية بعينها فيها المسلمة وغير المسلمة. فالمريسة في عرف هؤلاء تقع ضمن سلسلة الأطعمة والأغذية، ووسيلة لكسب الرزق. فأنت كمُشَرِّع، عندما تُجَرِّم هذا الفعل إنما تحكم على مجتمعات بحالها حكما ثقافيا من منطلق معياري لثقافة أخرى. وتكون وضعت مجتمعات بحالها تحت طائلة القانون. هذا فعل تنعدم فيه الحكمة من التشريع ولا يخلو من نعرة استعلاء ثقافي. ويُعتبر قانون النظام العام تجسيدٌ مثاليٌّ لنماذج التشريعات التمييزية والعنصرية التي تتجاهل ثقافة المجتمع وتحتقرها. فقانون النظام العام يُجَرِّم الأزياء النسائية السودانية، سواء تلك الأزياء التقليدية التي تطورت عبر القرون مثل الثوب والطرحة واللاوو وخلافها، أو الأزياء الحديثة التي جاءت مع تفاعلنا مع العالم المعاصر مثل البنطال والاسكيرت والبلوزة، وغيرها من أزياء قبلها المجتمع وأدمجها في أعرافه. فالقانون يحرم هذه الأزياء لأنه يحكم عليها بمعيار مستمد من ثقافات وأعراف شبه الجزيرة العربية وإيران وتركيا العثمانية. وهذا هو السبب في إدانة وجلد أكثر من ٤٤ ألف امرأة في الخرطوم في عام واحد فقط حسب إحصاءات منظومة النظام العام.
وتعارض التشريع مع الثقافات والعادات المجتمعية هو عين السبب الذي جعل الأستاذ محمود محمد طه يعارض قانون “الخِفَاض الفرعوني” الذي شرَّعه الانجليز في أربعينات القرن الماضي، بالرغم من اتفاقه معهم في أن الخِفَاضَ عادةٌ ضارة. وكانت حُجَّته الأساسية هي أن العادات الضارة لا تُحَارَب بالقانون، وإنما بالتوعية والتعليم والتثقيف والتمدين. ولأنه بمجرد إجازة ذلك القانون أصبح ٩٨٪ من السكان تقريبا واقعين تحت طائلته وخارجين عنه.
وبنفس المنطق فأنت لا يمكنك أن تُجَرِّم أسلوب حياة الناس. فإن كانت الطبقة الحاكمة ترى أن هناك مضار تقع على المجتمع من بيع المريسة، أو من خروج النساء لبيع الأطعمة والشاي، كما كان يرى مشرعو منظومة النظام العام، فواجب الحكومة هو توعية الناس بتلك المضار، والعمل على توفير البدائل لطرق كسب العيش بالنسبة لهذه القطاعات. وهذا لا يتأتى إلا بالتنمية الريفية ونشر التعليم وتوفير فرص العمل للناس. ولكن الحكومة لا تريد أن تسلك هذا الطريق الطويل الشاق، فهي تفضل الطرق القصيرة، السهلة، قليلة التكلفة short cuts فتفزع إلى سيف القانون القاهر.
مساهمة الحركة الإسلامية في تخريب الحياة السودانية
دخلت الحركة الإسلامية منذ نشأتها معترك الحياة السياسية في السودان وهي تحمل المصحف بيد والسيف باليد الأخرى. وكانت الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية هي سلاحها الأمضى الذي شرعت تَبْتَزُّ به القوى السياسية جميعها، وبالذات الحزبين الطائفيين. فمنذ نعومة أظافرها نجحت الحركة الإسلامية، بوسيلة الابتزاز والتوريط، في أن تقود الحزبين الكبيرين بسهولة بالغة في خطتها لتخريب الحياة السياسية في البلاد. كانت علاقة جبهة الميثاق الإسلامي بالحزبين الطائفيين أشبه شيء بغلام صغير ماهر يقود بعيرين ضخمين من خطامهما. ابتزت جبهة الميثاق الاسلامي الحزبين الكبيرين في قضية معهد المعلمين العالي وورَّطَتهما في حل الحزب الشيوعي. الأمر الذي صار وصمة عار في جبين الحزبين الطائفيين، وحمولة سياسية ثقيلة، مثل صخرة سيزيف، ينوء بحملها حزب الأمة خاصة، وبالذات رئيسه السيد الصادق المهدي الذي رفض حكم المحكمة الدستورية ما اعتُبر احتقارا للقضاء السوداني. ثم ابتزَّتهما مرة ثانية حتى انساقوا معها كالعُمْيَان في الحكم بردة الأستاذ محمود محمد طه. وورَّطَتْهُما مرة ثالثة في مقاومة مسلحة ضد نظام مايو باسم الحرب على الشيوعية، في عام ١٩٧٠، ما أدى لضرب الجزيرة أبا، ومقتل الإمام الهادي، ومجزرة ود نوباوي. وورَْْطَتْهُما مرة رابعة في محاولة قلب نظام مايو في عام ١٩٧٦، فيما عُرِف “بالغزو الليبي”. وكان الأخوان المسلمون هم ضباط ذلك الجيش بينما الأنصار جنوده. وأدت تلكم المحاولة الفاشلة لقتل أعداد كبيرة من شباب الأنصار وأفراد الجيش.
وبعد أن تخلت جبهة الميثاق الإسلامي عن حلفائها الطائفيين في الجبهة الوطنية ودخلت نظام مايو، ورَّطت رئيس النظام في نقض اتفاقية أديس أببا، وعودة الحرب الأهلية في البلاد عام ١٩٨٢. وورَْطَتْه في تطبيق الشريعة الإسلامية في سبتمبر ١٩٨٣، وبايعته أميرا للمؤمنين. وكذلك شاركته في اغتيال الأستاذ محمود طه في يناير ١٩٨٥ وحشدت له مظاهرات التأييد. وبعد أبريل ١٩٨٥ ابتزَّت الجبهة القومية الإسلامية الحكومة الانتقالية، والتجمع النقابي، بمظاهرات المصاحف التي كانت تجوب الشوارع مهددة الجميع حال المساس بقوانين سبتمبر. وفي الحقيقة لم يكن سوار الدهب أو الجزولي بحاجة لابتزاز، فقد أعلنا عزمهما على الإبقاء على تلك القوانين. كذلك ابتزَّت السيد الصادق المهدي وأجبرته على بلع تصريحه حول قوانين سبتمبر من أنها “لا تساوي ثمن المداد الذي كُتِبت به”. فاستجاب لابتزازهم وأبقى عليها. وعندما استولوا على السلطة في الثلاثين من يونيو ١٩٨٩، شَرَّعوا القانون الجنائي لعام ١٩٩١ المؤسِّس على الشريعة الإسلامية. وهكذا راهن الإسلامويون على جعل الشريعة خازوقا حقيقيا ومسمار حجا مغروزا على جسد الوطن، لا يَقَوَى أحدٌ على نزعه حتى وصلنا لحكومة الثورة الحالية. وهكذا نرى أن الدولة الدينية وقوانين الشريعة الإسلامية في الحقيقة لم يَخْتَرْها الشعب، ولم تجيئ عن طريق حوار وطني، بل حشرها له الحكام في حلقه بالقوة، واستخدموها ضده كسوط عذاب لتثبيت عروشهم. ولقد أثبت الشعب رفضه القاطع لها. بل ثار ضدها وأسقطها مرتين. المرة الأولى بإسقاط مايو عام ١٩٨٥، والمرة الثانية بإسقاط الكيزان في العام ٢٠١٩. ورغم كل ذلك عجز مفاوضو الحكومة في منبر التفاوض الثاني عن الالتزام بتلبية الرغبة الشعبية في إقامة الدولة المدنية العلمانية.
نواصل