مفوضية صناعة الدستور السوداني

0 57

د. الشفيع خضر سعيد

.

في مقالنا السابق، عبرنا عن إرتياحنا لقرار مجلس السيادة السوداني بشأن تشكيل مفوضية الانتخابات ومفوضية صناعة الدستور، لا سيما أننا أهدرنا عامين كاملين من عمر الفترة الإنتقالية دون الإلتفات إلى موضوع المفوضيات القومية رغم أهميته الفائقة، ورغم أن الثورة وضعته في قمة الأولويات. وإيفاء لإلتزامنا في ذات المقال بالمساهمة في نقاش مهام المفوضيتين، نبتدئ اليوم ببعض النقاط حول مفوضية الدستور.
لن نتناول المسائل التنظيمية والإجرائية والقانونية، ولكن سنركز على جوهر مهام المفوضية. وفي تقديرنا، يُعتبر نجاح مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري في إنجاز مهامها، مفتاحا رئيسيا، إن لم يكن المفتاح الوحيد، لوقف النزاعات والحرب الأهلية في البلاد ومنع تجددها، وإرساء دعائم دولة السودان الحديثة المستقرة، برضى كل مكونات البلد الإثنية والجهوية والسياسية. وحتى تنجح المفوضية، عليها أن تبني كل خططها وبرامجها وتفاصيل مهامها، بل وهيكلها الإداري والتنظيمي، منطلقة من: أولا، الإقرار بواقع التعدد والتنوع في السودان من حيث التركيبة السياسية والعرقية والثقافية والدينية ومستويات التطور…الخ، وأن الجميع متساوون في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة. وثانيا، الإقرار بوجود مظالم حقيقية تعاني منها سائر المناطق المهمشة،. وثانيا، أن العنوان الرئيسي لعملها هو إعادة بناء الدولة السودانية الحداثية المستندة إلى دستور وقوانين وأنماط حكم تراعي واقع التعدد المشار إليه. وثالثا، لتحقيق معنى هذا العنوان الرئيسي، فإن مجال تركيز المفوضية هو مخاطبة جذور الأزمة السوداني ومسببات الحرب الأهلية وكل أشكال التوترات والنزاعات في البلاد، بما يحقق نشر السلام وترسيخ وحدة السودان بحيث تأتي طوعا وفق الإرادة الحرة لكل أهل السودان، لا مفروضة بالقوة. ورابعا، نقصد بهذه المخاطبة، الإجابة على أسئلة التأسيس، التي ظلت حيرة دون إجابات، أو بإجابات مبتسرة، منذ فجر الإستقلال، وهي: أ- شكل الحكم الملائم والذي يحقق مشاركة عادلة في السلطة بين مختلف المكونات القومية والجهوية للسودان. ويشمل ذلك إصلاح النظام السياسي: الأحزاب، النظام الانتخابي، الممارسة البرلمانية، دور النقابات والمجتمع المدني…الخ، بما يضمن كسر متوالية الإنقلابات والإنتفاضات. ب- التوزيع العادل للثروة والموارد بما يرفع الإجحاف والإهمال عن مناطق متخلفة بعيدة عن المركز، في الجنوب والشرق والغرب وحتى في الشمال، مع إعطاء أسبقية لمناطق التوتر العرقي والقومي والاجتماعي، وذلك في إطار المشروع الاقتصادي العلمي الذي يراعي عدم تدهور مواقع إنتاج الفائض الاقتصادي وعدم استنزاف مركز ومصدر الخبرة العلمية. ج- التوافق حول قضيتي علاقة الدين والدولة والهوية السودانية. وخامسا، تضمين إجابات هذه الأسئلة، وغيرها، في مشروع وطني وثوابت دستورية مجمع عليها، تشكل أساس مواد الدستور الدائم للبلاد. وسادسا، مساهمة كل قطاعات الشعب في صياغة هذا المشروع الوطني، تحت ظلال الديمقراطية والحريات. وسابعا، الآلية الملائمة لتجسيد كل هذه العملية وتحويلها إلى فعل ملموس، هي المؤتمر القومي الدستوري.

وإذا أردنا فعلا التوافق على ما يمكن أن يصل ببلادنا إلى بر الأمان بعيدا عن التمزق والتفتت وإستدامة الحرب الأهلية، علينا النظر إلى إن وضع الدستور الدائم للسودان، ليس بالعملية الفنية البحتة، أو مجرد صياغات قانونية، تقتصر على الإستعانة بالخبراء الدوليين في الفقه الدستوري، أو الاكتفاء بدراسة دساتير البلدان الشبيهة. وإنما هي عملية سياسية من الدرجة الأولى مرتبطة بمهام تأسيس دولة سودان ما بعد الاستقلال، تلك المهام التي تستوجب التوافق على مشروع وطني يعالج أسئلة التأسيس كما ذكرنا أعلاه. ومن هنا، أهمية مفوضية صناعة الدستور، وأهمية تحضيرها الجيد للمؤتمر القومي الدستوري.يُعتبر نجاح مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر الدستوري في إنجاز مهامها، مفتاحا رئيسيا، إن لم يكن المفتاح الوحيد، لوقف النزاعات والحرب الأهلية في البلاد ومنع تجددها، وإرساء دعائم دولة السودان الحديثة

والمؤتمر الدستوري ليس كبقية المؤتمرات المعروفة التي تلتئم في جلسات حوار ونقاش ليومين أو ثلاثة، وتختتم أعمالها بتوصيات وقرارات، ولا يمكن اختزاله في مجرد جلسات تفاوض بهدف الاتفاق على اقتسام السلطة السياسية. كما أن قضاياه ليست هي ذاتها قضايا جولات التفاوض أو مؤتمرات السلام. هو أكبر وأعمق وأشمل من ذلك بكثير، ونتائج جولات التفاوض ومؤتمرات السلام هي بمثابة الطريق المؤدي إليه. المؤتمر الدستوري هو سلسلة عمليات مركبة تتضمن المشورة الشعبية، جولات حوار متنوعة، سمنارات، لقاءات عصف ذهني، ندوات..الخ. وهو يستوجب مشاركة كافة الأحزاب السياسية، وقطاعات المجتمع الأخرى من نقابات واتحادات وروابط ومنظمات حقوق الإنسان، وسائر منظمات ومبادرات المجتمع المدني المختصة، وزعماء القبائل والعشائر، وممثلي القوميات والمجموعات التي تطرح قضايا الأطراف والمناطق المهمشة، والشخصيات الوطنية…الخ، ويساهم في أعماله أوسع قطاع من الجماهير، في القرى والأحياء، عبر الإعلام المسموع والمقروء والمرئي، وعبر ورش العمل والسمنارات والندوات..الخ.
إن عملية وضع وصياغة الدستور الدائم للسودان، لا تبدأ من الصفر، أو من صحيفة بيضاء خالية من أي تجربة سابقة، بل بالضرورة، ومن الواجب، أن تنطلق من دراسة فشل التجارب السابقة، بما فيها فشل تجربة الانقاذ نفسها في وضع الدستور الدائم في سنواتها الأولى. وأعتقد أن ذلك الفشل، وقبله فشل النظام المايوي الذي ذهب هو ودستوره الدائم إلى المزبلة، وكذلك، حقيقة أن الدستور المؤقت، أو الانتقالي، ظلت تلازمنا منذ فجر الإستقلال، يجب أن يكونا كافيين للتأكيد على الإرتباط الوثيق بين وضع الدستور الدائم والتوافق على المشروع الوطني لبناء الدولة، وكذلك التأكيد على إزالة أي أوهام بإمكانية بناء الدولة ووضع دستور دائم لها على أساس النظرة الآيديولوجية الأحادية لهذا الفصيل أو ذاك، مهما أصبغ الفصيل على نفسه من صفات الإلتزام الوطني أو إدعى أنه الأقرب إلى القدسية أو الاكثر إخلاصا للدعوة الإلهية. ولعلنا في كل هذا نلحظ أهمية وخطورة مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر القومي الدستوري، والتي تجاهلتها حكومة ثورتنا طويلا.
إن صياغة الدستور الدائم لبلاد، أو الدعوة لعقد إنتخابات عامة، بعيدا عن ربط ذلك بالمؤتمر الدستوري، مع شره نخبنا السياسية للسلطة، يعني إستمرار هذه النخب في تكرار ذات أخطاء الماضي، ويؤكد فعلا إدمانها للفشل؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.