مقتل كردفانية على حد “أيا جملاً من الصحراء لم يلجم” لنزار قباني

0 70

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

لا شك أن الشاعر نزار قباني قد قصد بشعره العاطفي الجم أن يبشر بحساسية مبتكرة للقلب والعقل والجسد قد أذنت. ومع ذلك لست أحسبه قد خطر له أن تكون إحدى وثائق الحرية العاطفية التي سال بها قلمه قد أودت بحياة امرأة سودانية في ريعان العمر. فقد اعتنقت تلك المرأة الوثيقة لما رأتها تطابق حالتها، وتسبغ الشرعية على تمردها على حالها، وتدبر لها سبل الخلاص. ولسنا هنا بالطبع بصدد تحميل الشاعر جرم اغتيال هذه المرأة. فنحن لا نُجرِّم من يُحسن عمله. فمن تبعات الشعر أن يرتفق الناس في المرافئ ويطلقهم كالحمائم في صحو الآفاق. ولندخر إدانتنا لاؤلئك الذين يؤذيهم إطلاق السراح هذا، وتروج لهم أنانيتهم استرخاص قلوب وأرواح الناس.

في عام 1969 قتل “بكري” زوجته الأولي “سيدة” (والاسمان من وضعي) التي صممت على فض زواجها منه بعد زواجه بامرأة ثالثة. وبكري ابن عم سيدة. وينتميان إلى زعامة جماعة عربية سودانية وفَّرت لهما تعليماً مكن لبكري من وظيفة حكومية وأهَّـل سيدة للعمل حين التمست ذلك.

استعصمت سيدة بحاضرة الإقليم التي جاءت لها مع بكري لمناسبة عائلية، ثم تخلفت عنه في العودة طلباً للعلاج. وأرادت سيدة بتمكثها في حاضرة الإقليم وضع أهلها والوسطاء، الذين حالوا دون طلاقها من بكري مراراً وتكراراً، أمام الأمر الواقع. وفوق ذلك كله جاءت سيدة إلى تلك الحاضرة لتتزوج من بدوي (اسم من وضعي أيضاً) الذي كانت قد تعرَّفت عليه في زيارة سابقة للمدينة، واتفقا على الزواج متى تطلقت سيدة من زوجها. واتصلت رسائل عالية في العشق والشوق بين سيدة وبدوي. وهي رسائل استصفى فيها مولانا عثمان الطيب، قاضي الأبيض ورئيس القضاء لاحقاً، وقائع القضية وبنى حكمه على ضوء لهبها النادر.

ظل بكري، الزوج، يُلاحق سيدة لتعود إلى مدينتهم الريفية الصغيرة. وقد أكلت الغيرة قلبه بخاصة حين عثر على بعض رسائل بدوي العاشق في حرز أمين لها بالبيت. فاستجوبها عن دلالة هذه الرسائل فردت عليه إنها مما تبادلته مع بدوي حين كانت طالقاً منه، وهو طلاق لم يدم في نظر الزوج لأكثر من ساعتين.

ظل بكري يلحف عليها في العودة. وعاب عليها أن تعمل بغير مشورته. فكتبت له مدافعة عن حقها في العمل الذي هو “حق وواجب شرف”. وصارحته بضيقها منه وفرارها النهائي من بيت مزدحم بالزوجات. وعطفت على نص نزار قباني لتضعه قناعاً في حرب استبشاعها لحياته الركيكة وزحام الزوجات حوله، وتنتقد به شرهه الجنسي وبمفردات النص العاطفية:

متى يا سيدي تفهم

بأني لست واحدة من صديقاتك

ولا فتحاً نسائياً يضاف إلى فتوحاتك

أيا جملاً من الصحراء لم يلجم

(النص كما هو في حيثيات الحكم لا الديوان). وتوسعت سيدة في الاستشهاد بالقصيدة

حتى بلغت:

كهوف الليل في باريس قد قتلت مروءاتك

ولم يسعها هنا إلا التدخل في النص لتستبدل “باريس” باسم المدينة الريفية الصغيرة التي عاشا فيها. وهذا مما يعده نقاد الأدب ” تطفلاً خلاَّقاً” لأن القارئ يستأثر بالنص، ويذلـله ليُعبِّر عن أوجاعه وحرائقه.

كانت سيدة قد وطنت نفسها على فراق بكري بغير رجعة وأن تضع الجميع أمام طلاق بالأمر الواقع وبـ “ورقة” من مأذون شاعر. ولتصميمها على هذا الطلاق وجهان: أولهما أنها كتبت لبدوي، وهما معاً في حاضرة الإقليم، أنها سمعت صغار الحي يتحدثون عن حبهما. وواصلت تقول إن ذلك لم يحرك فيها ساكناً لأن حبهما لا ريب فيه وأنه مما تحميه الشجاعة لا المداراة.

وثانيهما إلغاء بكري بالكلية ونفيه عنها واعتباره، حتى في حضرتها، كأن لم يكن. فقد لحق بها في المدينة يريد إرجاعها فاستعصمت منه بصمت عظيم حتى وهو يقودها ليستقيل نيابة عنها عند مخدمها. ولما عادا للبيت الذي يأويهما في المدينة جلست معه في غرفة واحدة لا تنبس ببنت شفة. وحين استيقن بكري أن سيدة لن تعود معه إلى البيت استيقظ الوحش في ذاته لا “الإنسان” كما طلبت منه سيدة بناءً على قصيدة نزار:

متى تفهم؟

متى يستيقظ الإنسان في ذاتك؟

فقد أخذ مديته وطعنها طعنة واحدة أودت بحياتها للتو ثم طعن نفسه غير أنه لم يمت.

أثبتت استراتيجية الدفاع عن بكري على دعوى اقترافه الجريمة تحت تأثير استفزاز شديد مفاجئ نجم عن اكتشافه للعلاقة العاطفية التي ربطتها ببدوي. وقد نقض مولانا عثمان الطيب هذا الدفع بقراءة ميسرة لمسلسل الرسائل. بما فيها من وقائع وشعر. وانتهى إلى أن سلوك سيدة مما يستفز الشعور حقاً، ولكنه استفزاز خلا من الشدة والمفاجأة. وهما الركنان اللذان لا يستقيم دفع الدفاع إلا بهما. فقد صح عند المحكمة أن بكري قد قرأ طرفاً من الرسائل قبل أن يبلغ حاضرة الإقليم، واستفسر عنها، مما يحرمه من رحمة عنصر الشدة والمفاجأة في الحكم. وأيد مولانا عثمان الطيب حكم الإعدام الذي قضت به محكمة الموضوع.

بعد انقضاء عقدين من الزمان على الواقعة لابد أن نقر أن ذلك كله كان خسارة عظمى. فقدت الأسرة الكبيرة عضوين منها. وفقدت الأسرة الصغيرة أماً وأباً. وفقدت الزوجة الثانية والثالثة بعلاً. إن الأمر كله فقد في فقد من حيث جئته.

ولم نثر الموضوع هنا إلا لأنه يعود بنا إلى شاغلنا حول محنة الأسرة السودانية في طوايا قوانينها المنظمة لمعاشها، وأمنها، وتربية عيالها بغير ملمح عناية أو عطف أو انشغال من أهل ساس يسوس عندنا. فالأسرة السودانية هي مؤسسة في مهب الريح تخبط خبط عشواء ولهذا استفحلت الجريمة بين نسائها، وتشرد رجالها في الآفاق بينما ترد أسماؤهم في إعلانات المحاكم للطلاق للإعسار أو الغيبة.

حتاماً انتظار هذه الأسرة أن يتناصر الحكم، والقانون، والاقتصاد، والاجتماع، والشعر لتأمن إلى يومها وغدها إلى عقلها وعاطفتها، إلى دينها، إلى نسلها. فإذا بقي الشعر وحده يضمد أحزان مكسوري الخاطر كما رأينا فهذا باب جميل للجرائم غير الكاملة.

* نص الحيثيات منشور في مجلة الأحكام القضائية لعام 1970.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.