مكميك كسار قلم الحاكم العام جوفرى آرشر: عن خدمة الإنجليز المدنية
كتب: د. عبد الله على إبراهيم
.
(إلى روح فقيد التاريخ والجيل حسن عابدين وهي حديث عن الإنجليز في السودان لم نفرغ منه ورحل)
يتوهم كثير من صفوة السودان من التعليم الغربي أنهم وحدهم في أفريقيا وغيرها المتيمون بحب الإنجليز، وذكر أفضالهم، والندم على فوتهم، وانتظار عودتهم لينصلح الحال. وحملهم على هذا الوهم ظنهم أنهم لم يكونوا مُستَعمرين لأن الوصي عليهم كانت الخارجية البريطانية لا وزارة المستعمرات. علاوة على حظوتهم دون آخرين بإداريين من أكسفورد وكمبردج (أوكسبردج) ملء العين والسمع. ورددنا على هذه الترهات من قبل ولم يبق سوى القول إن الحنين للاستعمار فاش في كل مستعمرة سبقت حتى في الجزائر أرض المليون شهيد. فلما فشلت هذه الصفوة الغربية أن تبدع وطناً خيّراً ديمقراطياً عادت إلى الرحم مهرولة من ويل مثل بوكو حرام التي كفرتهم وتعليمهم ولعنت خاشهم.
وأكبر ترهات هذه الصفوة قولهم إن الإنجليز تركوا فينا خدمة مدنية سمحاء. وإشاعة أن مستعمراً كالإنجليز مما يترك “خدمة مدنية” هراء. وقولنا ب”خدمة مدنية” في عهد الاستعمار مما يعرف في الإنجليزية ب”أوكسمورن oxymoron”، أي العبارة التي تلغي نفسها بنفسها. وأول ما سمعت المصطلح كان من كاتبي اليميني المفضل جورج ول، كاتب الرأي بالواشنطن بوست، خلال الحرب الأهلية في لبنان. أذكر أنه ضرب مثلاً لهذه العبارة النقائض ب”الحكومة اللبنانية”. فلم يرتب الإنجليز إدارتهم لخدمتنا ولا كنا مدنيين في نظره. فإدارة الاستعمار لبلد هي، تعريفاً، لخدمة المتروبول (إنجلترا في حالنا) ونحن رعايا لا نهش لاننش.
وأريد هنا أن أطعن في مثالية خدمة الإنجليز المدنية التي يحلو لصفوتنا إذاعتها بحادثة في ١٩٢٦ تآمرت فيها سكرتارية الحاكم العام بقيادة هارولد ماكمايكل، السكرتير الإداري، للانقلاب على الحاكم العام جوفري آرشر (١٩٢٥-١٩٢٦) انقلاباً حفل بالدس والخساسة. فلم يبق في الوظيفة سوى عام. ما شَهَدوه. ودخل تآمر مرؤوسيه عليه بمرارة ظل يجترها حتى آخر عمره.
كان الإداريون الإنجليز اختلفوا في عشرينات القرن العشرين اختلافاً لم يخل من الخسة البيروقراطية حول سياستهم حيال الإمام عبد الرحمن المهدي وخططه لبعث المهدية من جديد. واصطرعت خطتان في الصدد. فكان من رأي شارل ويلس، رئيس قلم الاستخبارات، الاستمرار في سياسة الانفتاح على المهدي التي انتفع منها الإنجليز بتعاونه معهم خلال الحرب العالمية الأولى التي حاربوا فيها الدولة العثمانية ذاتها. ولكن إداريين آخرين أرادوا اعتزال المهدي وضبطه. وكانوا خافوا من مهدية المهدي الجديدة خاصة بعد ثورة السحيني (١٩٢١) في نيالا التي أعلن فيها أنه نبي الله عيسى وهو الذي يظهر بعد قتل المهدي. وأول نجاح للفريق الأخير كان نقلهم وليس ،وهو من جماعة التعاطي مع المهدي، ليخلفه ريجنالد ديفز الذي رأى في السيد عبد الرحمن مهدوياً منتظراً خطراً في وقته المناسب على حكمهم. و”نفوا” ولس إلى مديرية أعالي النيل يمضغ مراراته حتى انتهت خدمته في 1931.
وجاء جوفري أرشر حاكماً عاما في ١٩٢٥ ومن رأيه التعاون مع المهدي خلافاً لسكرتيريه المالي والقضائي بقيادة السكرتير الإداري هارولد ماكمايكل. جاء آرشر ليجد سكرتاريته معبأة على المهدي. فرأى ماكمايكل منذ 1919 أن من يرخي أذنه للإمام كاللاعب بالنار. وقال سرسفيلد هول، حاكم كردفان بالإنابة، إن الإمام سيشعل البلد ناراً ويقلب عاليها سافلها غداً متى شعر بأن بوسعه فعل ذلك. وزاد الطين بلة إن نفوس السكرتارية كانت تأكلها الغيرة على تعيين ذلك الرجل الطارئ على سياسة السودان حاكماً عليه. وضاقت به لأنه أخذ السكرتيرين بالشدة بردهم إلى صلاحية الاستشارة عن صلاحية التنفيذ التي اكتسبوها في غفلة. كما أنه سعى لتحجيم دور قلم المخابرات. وسخروا مما أبداه من همة في الوظيفة فقالوا عنه إنه “مكنسة جديدة” وهو مجاز في من تولى الأمر لتوه وأظهر حماسة في تنفيذه. ولم يستحوا من الغمز من قناته بأنه “طاعم”.
ونواصل إن شاء الله في حلقة قادمة.