منبر النهضة: المرأة بين الترابي وتقاليد الإنقاذ
كتب: د. عبد الله على إبراهيم
.
من أرشق ما طرق سمعي مؤخرا إعلان جماعة من الإسلاميين بقيادة أمين حسن عمر مسعاهم لتكوين خلية تفكير باسم “تيار النهضة”. وتريد الجماعة
أن تكون فريقاً يفكر في شأن مجتمعنا المحجوب عنا لتضخم السياسة، أو تورمها، فينا. فيريدون لتفكيرهم أن يتجاوز الصفوات إلى الجمهور الرحيب. وهذه نقلة أعرفها عني يوم كتبت “أصيل الماركسية: المقاومة والنهضة في ممارسة الحزب الشيوعي”. وأخذت فيه على الحزب تغليب السياسة-المقاومة في خطته في دارفور على شاغل النهضة. ولا أطيل.
وأسعدني الخبر بصور خاصة لأنه إيذان بتعافي الحركة الإسلامية من ويلتين أخذتهما عليها منذ الثورة. أما الويلة الأولى فهي ما يعرف ب “النشاز المعرفي” (cognitive dissonance) وهو تمنعها في الأخذ بالمعارف المستجدة في مجتمعنا مثل الثورة التي صادمت عقائدهم الحالية. أما الويلة الثانية فهي “ترحيل اللوم” (blame shifting). فما قلت لهم خرقتم الدستور بالانقلاب إلا قالوا ما الشيوعيون سبقونا إليها وكأن هذا يجزى. والويلتان حالة عقم لا تخيل على حركة كالحركة الإسلامية كتبت عنها يوماً، وهي في الحكم: “ماذا خسرنا بتهافت الحركة الإسلامية؟” اعترافاً بأنها ستكون فينا متي أحسنت إلى مدى الدهر بصورة أو أخرى.
تصادف أن سمعت بخلية التفكير الإسلامية هذه وأنا أرتب للتعليق على الشقاق المأساوي بين أحمد عبد الله آدم وبنته إحسان حول زواجها ممن لم يرضه. ارتق فتفهما يا رب. وعدت إلى كتاب الدكتور الترابي “المرأة بين الإسلام وتقاليد المجتمع” (١٩٧٣) ولقانون الأحوال الشخصية لسنة ١٩٩١ لأرى ما بوسعي الاستنارة به منهما. وفوجئت بأن ما بين القانون والكتاب، الذي هو ميثاق الحركة مع النساء، خصام بليغ. فكأن واضع القانون لم يقرأ الكتاب وحسب بل أنه لو وجده لحرقه في رابعة النهار. وبدت لي خيانة الحركة للنساء كما لم يسفر عنها حتى قانون النظام العام.
وبث الترابي في كتابه بعض شجونه مما أخذه على ذكورية مجتمعه. فكان يخزه حتى كصبي تدرجه في سلم التعليم إلى خواتيمه دون أخواته. فصار منذ عهد الطلب يصدع بآراء عن حقوق للمرأة قال إنها كانت صادمة لمستمعيه. وجاء في لقاء لنا بالإنجليزية (shock).
وصب الترابي جام فكرته عن حقوق المرأة في هذا الكتاب. وكان حذراً في نشره خشية أن يلقى عزوف السلفيين وعداءهم. فوزع نسخاً من مخطوطته على خاصة في الحركة ليجس النبض. بل وعرضه على عالم أزهري يرى رأيه. واتسم الكتاب، خلافاً لمؤلفات الترابي، الأخرى بكثافة الاستشهاد من القرآن والسنة حتى لا يجد عليه معترض سبباً. وكانت استراتيجية الكتاب ألا تكتفى الحركة الإسلامية بالتقرير العمومي عن منزلة المرأة المكرمة في الإسلام بل أن تخلص إلى تلك المنزلة من الدين عن طريق نقد التدين التاريخي الذي غلبت فيه أهواء الذكورة. وأكثر ما استثار الترابي لهذه الاستراتيجية، علاوة على نازع استحقاق المرأة الذي نشأ عليه، عزيمته ألا يقع تحرير المرأة بغير الإسلام. فقد قض مضجعه بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤ اقبال النساء، في طلبهن حقوقهن المشروعة، على الحزب الشيوعي يعززنه في الانتخابات. فقوى هذا من عزمه أن ينقى الدين الأصل عن التدين التاريخي. وتوافدت النساء على الحركة الإسلامية بعد شيوع فكرة الكتاب وسماه “كسباً”. فلم تأت النساء في قوله ليجدن الدين وقد وفر لهن الحقوق بل ليصارعن في الحركة لانتزاعها من براثن الذكورية وأوهامها.
بدأ الكتاب بأن المرأة مكلفة مثل الرجل و”موجه إليها الخطاب الديني مباشرة لا يتوسط إليها ولى من الرجال”. فما كلف الله الذَكر بأمر إلا ألقي بالتكليف نفسه على عاتق المرأة. فقال تعالى في الأحزاب: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ . . . أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)
وقال إن أصول الشريعة السوية قررت أهلية المرأة وحريتها مثل ما للرجل “وأن تختار الزوج، وأن ترفض من تُكره عليه، وأن تفارق الزوج وهو راغم”. واستنكر تشدد مجتمعنا على النساء ف”لا حرية لها في زوج تحبه ولا في اختيار زوج تقليه”. وليست هذه الطلاقة ما أذن بها قانون الأحوال الشخصية الذي صدر عن دولة للحركة الإسلامية. فالمادة ٢٥ منه تُبطل الزواج بغير ولي. والترابي شرّط أن يعقد الولي النكاح مما لا يتسق مع قوله “أن تختار الزوج” كأنه افتراض قبول الولي باختيارها لا مشاحة. من جهة أخري جرّم القانون عمل المرأة بغير إذن زوجها وعدها ناشزاً أي معلقة لا هي زوج ولا هي طالق. وهو ما يناقض قول الترابي إنه “ليس من أحد يسد في وجهها أبوب العمل الصالح والحياة العامة”.
أردت القول، ببيان طلاق قانون الأحوال الشخصية الظالم للنساء عن فكر الحركة الذي فتح لها أبواب النساء فتحاً، أن ما ينتظر منبر النهضة أثقالا. وستعلم متى ما واجهت خيانتها للمرأة في دولة الإنقاذ كيف ذبح الانقلاب فطرتها وثورتها.