من اليسار الأيديولوجي إلى اليسار البرامجي

0 95
كتب: د. النور حمد
ظلت الساحة السياسية السودانية، على ما يزيد عن نصف قرن، نهبًا لصراع اليمين واليسار، الذي لم يكن صراعًا مشتركًا ضد التخلف، وإنما صراع طرف لاستئصال الآخر. في هذه الحرب العَوَان اصطفت مختلف القوى، بقدر من المقادير، وراء لافتتي اليمين واليسار. الاستثناء ربما انحصر هنا، في حزب المؤتمر السوداني، والحزب الجمهوري، والحزب الليبرالي، الذي نشأ متأخرًا، مقارنة بالآخريْن. وبطبيعة الحال هناك العديد من الأحزاب الصغيرة التي لا يتسع المجال لذكرها. ورغم اتخاذ الحركات المسلحة طريق الكفاح المسلح، فهي الأخرى تصطف وراء لافتتي اليمين واليسار المؤدلجين، اللذين مثلَّا قطب الرحى في تلك الحرب الطويلة، غير المنتجة.
خاض حزب المؤتمر السوداني نضالاً شرسًا ضد الأنظمة الدكتاتورية، ولعب دورًا بارزًا في مجمل مسيرة الحراك، الذي اقتلع نظام الإنقاذ. بدأ هذا الحزب مستقلاً منذ تخلُّقه الأول في الحركة الطلابية، تحت اسم “مؤتمر الطلاب المستقلين”. لكن لسببٍ ما، لا يزال استقطابه لفئة الشباب النافرين من الأحزاب التقليدية والأحزاب المؤدلجة محدودًا. بناءً على السيناريوهات الثلاثة التي رسمتها بالأمس، فإن خيار التحالف لخوض الانتخابات القادمة، هو الخيار الأكثر عملية، حاليًا، للحفاظ على الثورة وأهدافها. بناء عليه، فسوف أحاول هنا تقديم شرح موجز لتصوري لهذا الحلف اليساري العريض، مع تعريفٍ موجزٍ لمفهوم “اليسار البرامجي”، المتحرر من قبضة الأيديولوجيا الكلية الحاكمة.
لقد عفا الزمن، على اليسار الماركسي اللينيني. وكذلك على اليسار العروبي، الذي كان محاولةً لأقلمة التجربة الشيوعية السوفيتية في السياق العربي،. أصاب نجاححا جزئيٍا في مصر، وفشلا ظاهرٍا في كلٍّ من سوريا والجزائر والعراق وليبيا واليمن والسودان والصومال. لقد انهزمت تجربتا اليسار الماركسي والعروبي في التطبيق العملي، غير أن مفهوم اليسار بمعنى اعتناق النهج الديمقراطي، وخلق برامج اقتصادية واجتماعية مناهضة للنيوليبرالية وللعولمة، ورفض التبعية المطلقة للمركزية الرأسمالية الغربية، سيظل باقيا. بل، أصبح مطلوبًا بإلحاح، الآن.
لهذا التوجه البرامجي اليساري، فيما ألمس، وجودٌ بصورة ما، في كل التكوينات السياسية السودانية. خاصة، وسط القطاع الشبابي المنتمي إلى كل هذه التكوينات. ويشمل ذلك شباب أحزاب الأمة والاتحادي، والإسلاميين. فلو لأننا استطعنا التحرر من قبضة الأيديولوجيا الكلية الحاكمة، ومن التصاقنا العاطفي المفرط بتواريخنا الحزبية، وذكريات نضالاتنا الشخصية، فإنه يصبح من الممكن، مستقبلاً بلورة كتلة جديدة تضم كامل طيف اليسار. فكثرة الأحزاب، كما هي لدينا الآن، ما هي إلا علامة على تخلف الوعي السياسي. فأغلب الديموقراطيات الكبيرة في العالم، تقوم على حزبين كبيرين، يمثلان اليمين واليسار. فاليمين يقف مع حرية السوق، والخصخصة، التي تشمل حتى الخدمات الطبية والتعليمية. أما اليسار فيقف مع دورٍ أكبر للقطاع العام في تقديم الرعاية للجميع عن طريق لجم شره الرأسمال، ومنعه من الهيمنة الشاملة.
وفقًا لما طرحته من سيناريوهات في مقال الأمس، فإن الأقرب إلى التحقق، من الناحية العملية، في المرحلة الراهنة، هو خلق جبهةٍ يساريةٍ عريضةٍ، يحتفظ فيها كل حزب يساري التوجه بالمعنى الذي أشرت إليه، بكيانه الخاص، عند خوض الانتخابات القادمة. على أن يجري الائتلاف لتشكيل كتلة متحدة في البرلمان عقب ظهور النتائج. فالانتخابات القادمة هي التي سوف تحسم مصير الثور؛ تقدمًا أو تراجعا. لكن، على المدى الأطول، ينبغي أن يجري تطوير الخطاب والبرامج بحيث يتخلق حزبٌ كبير موحد، يجسد اليسار البرامجي، ويصبح القوة المعادلة في الوزن لكتلة اليمين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.