مِنْ حَرَّتْ إِلَى البُوْلُوْ؟!

0 51

كتب: كمال الجزولي

.

 

الإثنين

أعلنت وزارة التِّجارة أنها ستطلق، ابتداءً من يوليو القادم، حملة لمراقبة الأسواق، وضبط الأسعار (صحف؛ 29 مايو 2021م). ذكَّرني ذلك بخبر كنت طالعته، أوَّل هذا العام، فحواه أن نفس وزارة التِّجارة أعدَّت قانوناً يقضي بعقوبة السِّجن خمس سنوات، مع جواز المصادرة، على بعض المخالفات، كعدم وضع بطاقات الأسـعار على السِّـلع، وأن ذلك القانون كان، وقتها، ما يزال في مرحلة الإجازة بمجلس الوزراء (الحداثة؛ 16 يناير 2021م).

والآن، ما الذي يجعلنا نصدِّق خبر مايو، بينما خبر يناير مضت عليه، حتَّى الآن، أكثر من أربعة أشهر دون أن يتحقَّق، دَعْ أن نتوقَّع افتراع أيَّة خطة جديدة لإصلاح الأوضاع الاقتصاديَّة والمعيشيَّة؟! ما الذي يجعلنا نصدِّق والحكومة ما تنفكُّ تعوِّل على الحلول الخارجيَّة، لا الدَّاخليَّة، وعلى استثمار رأس المال الأجنبي، لا المحلي؟! ما الذي يجعلنا نصدِّق، وهي لا جديد لديها سوى الاستبشار بـ «مؤتمر باريس» الذي احتشد فيه العشرات، جاعلين منه مناسبة سياحيَّة، بينما لم تحصل فيه من المانحين، فعليَّاً، على أيِّ مال حقيقي؟! ما الذي يجعلنا نصدِّق، والدِّيون لم يتمَّ بشأنها سوى محض تكرار لوعدٍ قديم بتخفيفها جزئيَّاً، شريطة التَّقيُّد بتنفيذ برنامج المبادرة الخاصَّة بالدُّول المثقلة بالدِّيون تحت رقابة صَّندوق النَّقد الدَّولي؟!

 

الثُّلاثاء

هؤلاء الذين يبثُّون نصائحهم، صباح مساء، عبر المذياع والتِّلفاز، لمليارات سكَّان الكُّرة الأرضيَّة الأكثر فقراً في العالم، كي يبقوا في منازلهم، اتِّقاءً لشرَّ كوفيد ـ 19، هل يعلمون كم هي تكلفة ما يدعون إليه، بالنَّظر لاتِّساع مساحة البلدان الفقيرة، واتساع حجم الطبقات السُّكانية الضَّعيفة في البلدان الفقيرة، وتفاقُم احتمالات فقدان هؤلاء الفقراء لمصادر رزقهم جرَّاء سماعهم تلك النَّصائح، والبقاء في منازلهم؟!

حسناً .. لأجل أن نأخذ فكرة عامَّة، فقط، عن مدى الظلم الذي يرزح فيه عالمنا، دعونا نلقي نظرة عابرة على برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي يقدِّر الدخل الأساسي المؤقت الذي يحتاجه مَن يعيشون تحت خط الفقر، أو فوقه مباشرة، في 132 دولة نامية، بنحو 199 مليار دولار أمريكي شهريَّاً، لمقابلة نفقات الطعام، والصَّحَّة، والتَّعليم، في مستوى الكفاف. ثمَّ دعونا نلقي، من ناحية أخرى، نظرة عابرة، أيضاً، على مؤشِّر بلومبيرج لمليارديرات العالم في بداية العام الحالي 2021م، لنجد أن ثروات أقلَّ من 3000 منهم تفوق 9 تريليونات دولار أمريكي! بل أن5 منهم فقط، 4 أمريكيِّين وفرنسي واحد، يملكون 725 مليار دولار أمريكي! ويتصدَّر قائمة هؤلاء الـ 5 إيلون ماسك، صاحب شركة تسلا لتصنيع السَّيَّارات الكهربائيَّة بكاليفورنيا، وشركة سبيس إكس، المصنِّعة للصواريخ التي تعتمد عليها وكالة ناسا لإعادة إمداد المحطة الفضائيَّة، وتبلغ ثروته 201 مليار دولار! ويليه جيف بيزوس، مؤسس شركة أمازون في سياتل، وهي أكبر شركة تسوُّق إلكتروني عبر الإنترنت في العالم، تبيع الكتب، والسِّلع المنزليَّة، وغيرها، وتقدِّم خدمات الحوسبة، وبثِّ الفيديو، وتسيطر على سلسلة متاجر البقالة Whole Foods، وتبلغ ثروته 183 مليار دولار! أمَّا الثَّالث فهو بيل غيتس، ويدير جزءاً من ثروته عبر ملكيَّته لشركة Cascade Investment التي تملك أسهماً في عشرات الشَّركات، وتبلغ ثروته 132 مليار دولار! وأمَّا الرَّابع فهو الفرنسي برنار أرنو، رئيس ومالك نصف مجموعة أكبر مصانع السِّلع والأزياء الفاخرة في العالم، وتشمل منتجاتها أشهر ماركات السَّاعات، والشَّامبانيا، والمصنوعات الجِّلديَّة، وتبلغ ثروته 108 مليار دولار! وأمَّا الخامس فهو مارك زوكربيرج المؤسِّس المشارك، والرَّئيس التَّنفيذي لشركة فيسبوك التي استحوزت على تطبيق واتساب منذ العام 2014م، ولديها حوالي 2.5 مليار مستخدم شهرياً، وتبلغ ثروته 99.2 مليار دولار، وهو الأصغر سناً بين الـ 5 إذ لا يتجاوز عمره 39 عاماً!

 

الأربعاء

قد لا يعرف الكثيرون أن فكرة «هيئة المحلفين Jury»، المعتمدة لدى الكثير من الأنظمة القانونيَّة في العالم، مأخوذة، بالأساس، من إمارة صقليَّة الإسلاميَّة (٢٥٠هـ – ٤٥٠هـ)، بل وتعود بجذرها إلى مفهوم «اللفيف» في المذهب المالكي؛ و«اللفيف» هيئة من اثني عشر عضواً يشهدون أمام القاضي بما رأوا أو سمعوا بأنفسهم! والغريب أن معظم الباحثين الاسلاميِّين ينتقدون هذا النظام باعتباره مخالفاً للشَّريعة الاسلاميَّة، ويرون أنه من غير المعقول وضع القضاء في أيدي جماعة لا علم لها بالقانون! ويعيبون على هذا النِّظام السِّرِّيَّة التي يتَّبعها المحلفون في الوصول إلى قرارهم!

مع ذلك يجيز المالكيَّة هذا النِّظام في القضاء، خصوصاً في بلدان شمال أفريقيا. ويرى باحثون أن نظام المحلفين في أمريكا مأخوذ بحذافيره من تعاليم الامام مالك الذي يرى أن روح الجَّماعة تولد الشُّعور بالتَّآذر في احقاق الحق.

 

الخميس

المشهد الواقعي السِّحري في الأدب الرِّوائي قد يبعث على الرُّعب؛ غير أنه حين يتكرَّر بحذافيره في الواقع المعاش يتحوَّل إلى خرافة أكثر رعباً مِمَّا في بطون الكتب، يقفَّ لها شعر الرَّأس من الهول! بعض هذا قد يقع أحياناً، وإن كان نادراً، فيدفع إلى تكذيب ما تراه العين!

في جلسة الدائرة التَّمهيديَّة بلاهاي، بالاثنين 24 مايو 2021م، لاعتماد التُّهم الموجَّهة إلى السَّفاح المغتصب علي كوشيب، أوردت فاتو بنسودا، اقتباساً من محضر التَّحقيق، خلال رصدها لبعض الجَّرائم، حالة امرأة من الضَّحايا روت ما فعل بها الجنجويد، قالت: «أمسكني من يدي، وجذبني حتَّى رماني على الأرض، كانت لديه سكين، وربط يديَّ بحبل إلى شجرة، ثمَّ وضع (جزءاً من جسمه) في فرجي (!) فصرخت، فجاء جنجويد آخر يحمل سيفاً وضعه على فمي وقال إنه سيقطع عنقي إن لم أصمت»!

 

عبد العزيز بركة ساكن

في رواية «مسيح دارفور» المرعبة، والسَّابقة على ما كشفت عنه رواية بن سودا بثلاثة عشر سنة، أورد عبد العزيز بركة ساكن، على الصَّفحات 135 ــ 137، بلسان إحدى الضَّحايا: «صرختُ من خلف أكمة القصب، التفَّ حولي كثير من الجَّنجويد، أبدوا ملاحـظات حـول جسـدي، وطلبـوا منِّي أن أخـلع ملابسـي إذا أردتُ أن أُتـرك حيَّة .. كانوا سكارى ومساطيل تفوح من أفواههم رائحة العرقي والمريسة، وأكَّدوا لها أنهم جميعهم يريدونها في نفسها إذا رضيت، وإذا رفضت فسيربطون رجليها إلى ساق الشَّجرة ويفعلون بها، ثمَّ شرعوا، بالفعل، في ربطها إلى ساق شجرة النَّبق، وحينما أزاحوا القصب رأوا الطفلين اللذين صرخا في رعب وهما يلتفَّان حول أمِّهما، هتف أحد الجَّنجويد مكبِّراً وهو يخرج سكِّيناً كبيراً ويمضي نحو الطفلين اللذين أخفيا وجهيهما في جسد أمِّهما بين أثوابها الممزَّقة، قبض على الأصغر ابن السَّابعة الذي أسمته أمُّه أحمد، وحاول ذبحه، قالت له: ما تخاف الله يا راجل؟! ردَّ عليها، وهو منشغل بتخليص الطفل من يديها اللتين تقبضان عليه بشدَّة: الله؟! الله منو؟! الكتلناه في وادي هور قبل أسبوعين؟! وضحك في وحشيَّة .. أحسَّت بالأرض تميد تحتها، وفي لمح البصر فصل رأس الطفل عن جسده تماماً، ورمى بالرَّأس بعيداً وهو يكبِّر في هستيريا، وأراد أن يمسك بالآخر الذي انطلق جارياً كما الرِّيح .. أخذ أحدهم يجرِّدها من ملابسها بقطعها بالسِّكِّين، ثمَّ بمساعدة أخرين ربط رجلها اليمنى إلى شجرة النَّبق، والأخرى إلى وتد دُقَّ بالأرض، وأخذ يغتصبها وهي تصرخ، وتقاوم، تعضُّ وترفس، تقرص بأظافرها الحادَّة، وتبصق في وجوههم، ثمَّ أخذ مكانه آخر، وآخر .. أراد واحد منهم أن يطلق النار عليها، لكن أحدهم أوقفه ممسكاً بسلاحه، وقائلاً إن الموت بالنِّسبة لها راحة، خليها تمشي تعيش في معسكر كلمة بين ميتة وحيَّة، لا زوج، لا أطفال، لا أم، لا أب، لا بيت، لا قرية، لا شرف»!

 

الجُّمعة

مطلع الأسبوع الماضي، وبمشاركة عدد من إداريي وعمَّال السِّكَّة حديد، والمغنِّية البارعة شموس، قدَّمت فضائيَّة «إس 24» حلقة متميِّزة من برنامج «العوَّامة» الممتع عن هذا المرفق الحيوي، حيث أفاض المشاركون في الإفادة بأهميَّته، ودوره في التَّنمية، وربط أطراف الوطن ببعضه البعض. ولا تثريب، بالطبع، على من يمجِّد السِّكَّة حديد، ويرى فيها أحد العوامل الأساسيَّة للنَّهضة في بلادنا خلال العهد الوطني. لكن من الضَّروري جدَّاً، طالما أن هذا النَّوع من البرامج يستهدف، بطبيعته، قطاعات من المشاهدين العاديِّين، عدم إغفال الحديث عن جوانب تعليميَّة لا تُستكمل، بغير إيرادها، المعلومات الخاصَّة بنشأة المرفق، وإلا قرَّ في وعي الجَّمهور، خطأ، أنه تأسَّس، في الأصل، لأجل هذه الأهداف النَّبيلة! فالحقيقة الأساسيَّة في شأن نشأة السِّكة حديد هي ذات الحقيقة الأساسيَّة في شأن السِّياسات، والخطط، والأساليب التي اتَّبعتها الإدارة الاستعماريَّة لاستنزاف موارد البلاد، ونهبها، واستغلالها. فمثلما شيَّد البريطانيُّون خزان سنار، وخطَّطوا مشروع الجزيرة، كأضخم مشروع في الإقليم، لزراعة القطن الذي كانت تحتاجه صناعة النسيج في لانكشير، فضلاً عن المشاريع الزِّراعيَّة الأخرى على النيلِّين الأبيض والأزرق، ومشاريع دلتا القاش، وطوكر، وجبال النوبا، والشَّماليَّة، وغيرها، وأسَّسوا كليَّة غردون لتخريج العدد المطلوب من المستخدَمين في أسفل سلم الإدارة الاستعماريَّة، مدُّوا، أيضاً، خطوط السِّكة حديد، لا لربط أطراف البلاد ببعضها البعض، وإنَّما لتيسير نقل الثَّروات المنهوبة عبر القطارات من مناطق إنتاج المحاصيل، كالقطن، والصَّمغ، والسِّمسم، والذُّرة، وغيرها، إلى ميناء بورتسودان لترحيلها، بالبواخر، إلى بريطانيا، ولأجل ذلك، كذلك، بنوا ميناء بورتسودان، وأنشأوا أضخم مجمع لورش السِّكَّة حديد في مدينة عطبرة، لتصنيع وصيانة عربات القطارات، وقطع غيارها، وما إلى ذلك.

 

السَّبت

جزء مهم من تاريخ السُّودان الاجتماعي، خلال مرحلة الاستعمار البريطاني، يمكن استشفافه من خلال انعكاسات الصِّراع الطبقي على الأوضاع الفكريَّة والثَّقافيَّة لفئة الانتليجينسيا، بشريحتيها المتمثِّلتين في «الأفنديَّة الغردونيِّين» و«المولانات المعهديِّين»، وموقفهما من مفهوم «الحداثة» بوجه مخصوص. أولى الملاحظات التي ترد في هذا الشَّأن هي أنه، ومهما بدت على «الأفنديَّة الغردونيِّين» من وحدة مظهريَّة، فإن صراعاً حادَّاً دار، في واقع الأمر، بين جيلين منهم: قدامى سعوا لتعويض محدوديَّة معارف الكليَّة، «فلم يبلغوا أكثر من الشِّعر العربي الكلاسيكي» (محمَّد المكِّي إبراهيم؛ أصول الفكر السُّوداني)، وجُدُد تمرَّدوا على تلك المعارف، فكافحوا «لتوجيه برامج الدِّراسة الثانويَّة نحو الثَّقافة العامـَّة، والإعداد للدِّراسة الجَّامعيَّة، والتَّزويد بمعرفة خالصة تربِّي الرُّوح وتزكِّي المشاعر» (المحجوب وحليم؛ موت دنيا). غير أن ذلك الطموح «الحداثوي» لم يكن ليبلغ أيَّ مستوى من عمق الثَّقافة الغربيَّة. فالمستوى السَّطحي من التَّعليم الذي قصد المستعمر أن يقيِّد به عقول تلك الفئة، كما الأسلاك الشَّائكة، جاء محمولاً على آلة الانتصار العسكري في كرري، 2 سبتمبر 1898م؛ ومعلوم أن «من ينتصر خارج الثَّقافة يترجم انتصاره داخلها أيضاً» (فيصل دراج؛ م/الرافد). من ثمَّ كان «الأفنديَّة» الجُّدد يرون في الجيل الأقدم قوَّى «الرَّجعيَّة» التي لا بُدَّ من مواجهتها بحسم (موت دنيا، سابق). ونتيجة للاعتقاد بأن الافتقار إلى المعارف الغربيَّة الحقيقيَّة التي حرموا منها هو سبب هزيمة 1924م، سادت وسط خرِّيجي الكليَّة الجُّدد، بالذَّات، ظاهرة الانكباب، طوال عقد الثَّلاثينات، على تلك المعارف، من خلال جمعيَّات القراءة Reading Groups. هكذا، ومن حيث كان مطلبهم التَّحرُّر من مركزويَّة المتروبول، تضعضعوا، للمفارقة، إزاءها! وكان ذلك، بشكل مشابه أيضاً، هو مآل «مؤتمر الخرِّيجين» الذي استبطن، أوَّل أمره قُبيل الحرب الثَّانية، الاعتماد على قواه الذَّاتيَّة، إلا أنه سرعان ما ارتدَّ، أثناءها وبُعيدها، إلى النُّفوذ الطائفي. فزعماؤه، «بدلاً من أن يصـيروا أقوياء بالأصـالة .. أصبحوا وكلاء سياسيِّين للطائفيَّة» (محمد ابراهيم خليل؛ «تجربة السُّودان الدِّيموقراطيَّة: المحنة الراهنة والأمل المستقبل»، ضمن كتاب «الدِّيموقراطيَّة في السُّودان»، ت: حيدر ابراهيم علي).

وإذن، لم يكن بمقدور تعليم الكليَّة القشرى، بالقصور النَّاشب في مناهجه، أن ينمِّي لدى أولئك «الأفنديَّة» ملكات نقديَّة يحتاجها الأدباء، والشُّعراء، والنُّقَّاد، بالضَّرورة، حيث أورثهم، حسب الحكم الذي أطلقه هارولد ماكمايكل، «اتِّجاهاً عقليَّاً يبلغ، في دركه الأسفل، الحسد، وفى أفضل أحواله الميل إلى السَّفسطة والرُّومانسيَّة» (Sir Harold Mc Michael; Anglo – Egyptian Sudan, London 1934, p. 139). هكذا أصبح المتعلم السُّـوداني، من وجهة النَّظر الاستعماريَّة هذي، مجـرَّد «موظف صغير، ولد في أحضان جماعة بدائيَّة ينطوي قلبه على احتقارها، لكنه ملزم بقيود من الأعراف غير المستنيرة، ويشعر بأن ثقافته محض قشور، وآماله أضغاث أحلام، فيستعيض عن الانسحاق بأسطورة عن ماضيه المجيد، ويرى نفسه بطلاً لنهضة أعظم، ولا يمكنه تصوُّر رفاهيَّة بلاده بمعزل عن مصالحه الذَّاتيَّة» (نفسه).

مع ذلك، أضحت الكليَّة شغل الأفنديَّة الشَّاغل، تتغشاهم منها «غاشية اللقاح الرُّوحي الأوربِّي»، على حدِّ تعبير العميد يوسف بدرى، حيث «جميع المواد بالانجليزيَّة، وغالبيَّة المعلمين إنجليز، فطابت حياتنا، ونعمت أجسادنا، لباساً نتنافس في زينته، وطعاماً نتفاخر بصنعته، وأصبحنا نجلس للأكل على مقاعد وطاولات، وسكنَّا في غرف أرضها بالبلاط، ولم نره من قبل، وسهرنا ودرسنا تحت ضوء الكهرباء، واغتسلنا من ماء يخرج من الحائط، وعهدنا بالضوء من فانوس الجَّاز، والماء يُستخرج، بعد جهد، من أعماق الأرض، لبسنا .. للعب زي، وللدَّرس زي، وحتَّى للنَّوم لبس مغاير، وكان كلُّ ما نلبس، في الماضي القريب، العرَّاقي والسُّروال، حفاة الرَّأس والقدمين، إلا عندما نكبر .. وفي اللعب، أيضاً، تحوَّلت شليل وحرَّت وعيتنوبة، فى عهد اللقاح، إلى روندوز، وموانع، وكرة قدم، حتى التنس والبولو عشقهما الكثيرون منَّا عندما أصبحوا أفنديَّة (يلعبون) مع المفتِّشين والمديرين البريطانيِّين. وبذلك أصبح الأفندي مرتبطاً بالانجليزي، صباحاً في المكتب، وبعد الظهر في الملاعب، يتحدَّثون بالانجليزي، وكثيراً ما يقدِّم الانجليزي كتاباً لزميل المكتب السُّوداني، وهكذا كان اللقاح طريقاً لاتِّجاه واحداً لخرَّيج الكليَّة الذي أصبح أفنديَّاً، فاكتنفته رياح التَّغيير حاملة لقاحات استقرت في نمط حياته، وأسلوب معاملاته، وصولاً إلى أعماق فكره، فترى مأمور المركز والباشكاتب والطبيب ورئيس الحسابات متنكلزين ـ أى مقتفين أثر الانجليزي» (يوسف بدري؛ قَدَر جيل).

أما «المولانات» الذين ما كانت لقاءات الأندية المسائيَّة تكاد تنعقد، حتَّى يكونون هدفاً للتَّندُّر (تيم نبلوك؛ صراع السُّلطة والثَّروة في السُّودان)، فقد استغرقهم غبن ساحق ماحق بإزاء دونيَّة «المعهد» في هيكل السِّياسة التَّعليميَّة الاستعماريَّة، وحرمان خرِّيجيه من تفيُّؤ ظلال الكليَّة، وسحر مبانيها، وانتقال خرِّيجيها المضمون إلى نعيم الميرى، فانشغلوا باستفراغ مراراتهم على «أولاد مستر يودل، ناظر الكليَّة الذي أشاعوا عنه شبهة الميول المثليَّة، أو (غرس يودل) بمصطلح حسين منصور، شاعر المعهديِّين الحسود الذى لم يقتصر على تصويرهم بأنهم طائفة مخنَّثة، بخدودهم اللدنة، وأذرعهم البضَّة، وشفاههم الرَّقيقة، بل وأقذع، فوصف الكليَّة ذاتها بأنها موئل الفسوق والشُّذوذ، يشطأ طلابها غرس يودل، ويتبرعمون، يرويهم ماء الرِّجال وشوربة العدس» (ع ع إبراهيم؛ ورقة فِي داحس المعهديين والغردونيين وغبرائهم). بالنَّتيجة، انتهى المولانات إلى التَّمترس خلف هويَّة صاغوها من الحرمان الذى ما لبث أن انقلب لديهم إلى كراهة «حداثة» توهَّموها فى صورة الكليَّة، فغلفوها بالاسترابة الغليظة في الغردونيِّين، على حين وقع للغردونيِّين، بالمقابل، «أن المعهد، أصلاً، نتاج مؤامرة استعماريَّة للحرمان من ثمرات العلم الذى هو لبُّ القوَّة والذَّكاء الحضاري، لذا فهو مشكلة بأكثر منه تعليماً بديلاً» (نفسه).

في وقت لاحق، وتحت ضغط تلك الرُّؤية العكرة، وقعت دعاوى «الشِّعر الحديث»، مثلاً، وأدنى نزعة لـ «التَّجديد» فيه، أو التَّحرُّر ولو بأخفِّ صورة، كمحض ضرب من «التَّخنُّث والميوعة!» لدى ذائقة «فحول» الشُّعراء والنُّقَّاد، كعبد الله عبد الرحمن الأمين القائل: «لعمرُكَ أنَّ الشِّعرَ أصبحَ ماجناً/ قوافيه من تَحنانِها تتأوَّدُ»! ولم تقتصر تلك النَّزعة على من انتموا للمعهد عضويَّاً، وإنَّما شملت حتَّى من انتموا، فقط، لمزاج تيَّاره العام، كفرَّاج الطيِّب، مثلاً، في ما عُرف عنه من التَّزمُّت، شعراً أو نثراً! وفي السِّياق لم ينجُ حتَّى الشُّعراء المعهديِّين المجيدين الذين دعوا للتَّحرُّر والثَّورة على الجُّمود والخنوع، من أن يكونوا هدفاً لحرب شعواء، سواء من التَّقليديِّين في المعهد، أو المسؤولين وجهاز المخابرات خارجه، مِمَّا تعرَّض له، مثلاً، الهادي عثمان العمرابي. بل لم يسلم مَن آثروا طلاقة الفكر، والتَّفكير، والإبداع مِن أن يبلغ التَّباذؤ، والسَّبُّ، والقذف في حقِّهم حدَّ «التَّكفير»، كالتِّجاني يوسف بشير! ولم يخفِّف من سوء الظَّنِّ بـ «الحداثة»، في رأي يوسف بدري، حتى ارتداد أجيال «الأفنديَّة» الجُّدد إلى الأزياء «البلديَّة»، مع بواكير انهيار مملكتهم، وصعود نجم الأقسام العربوإسلامويَّة منهم، إقتصاديَّاً، وسياسيَّاً، واجتماعيَّاً، وثقافيَّاً، أواخر سبعينات ومطالع ثمانينات القرن الماضي، فـ «لمَّا بدت للأفندى سوأته، أخذ يخصف على عقله خوصاً آسناً أسموه العودة إلى الأصول والجُّذور! وكما كنا نتبارى فى اللبس الوافد مع اللقاح، تباروا هم فى لبس العمامة والملفحة والجلابيَّة والعباءة، لبس ساخن لا يحتمل تكلفته إلا جيب ملآن، ولا يطيقه إلا عقـل آسـن» (قدر جيل، سابق).

هكذا غامت، ضمن ما غامت، فى حمَّارة قيظ تناقضات الانتليجبنسيا تلك، كلتا «بصيرة التَّديُّن» و«استنارة الحداثة»، فاستحالتا، فى أفق التَّطوُّر اللاحق، محض حزازة، وتصفية حساب، بحيث أضحت مرجعيَّة «الدِّين» عند إحدى القبيلتين «تخلفاً رجعيَّاً» بالمطلق، مثلما أضحت مرجعيَّة «الحداثة» عند الأخرى «فسوقاً علمانيَّاً» بالمطلق أيضاً (أنظر مقالتنا: “مثار النَّقع”، الصَّحافة 2 يناير 2001م)!

 

الأحد

اشتُهر الرَّئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديجول بأنه كان كثير التَّرفُّع، شديد الاعتداد بنفسه، إلى حدِّ اللامعقول! وفي إحدى زياراته لدولة أجنبيَّة، سأله رئيسها: كيف حال فرنسا؟ فما كان من ديجول إلا أن أجابه قائلاً: ليست على ما يرام .. فأنا أتقدَّم في العُمر!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.