نحو إنسان جديد
في بناء البشر
تمثل ثورة ديسمبر المجيدة أعظم ثورات السودان في التاريخ المعاصر وتختلف عن ثورة أكتوبر 1964م وانتفاضة أبريل 1985م من حيث القوى الاجتماعية القائدة لهذه الثورة في شباب ولد ونشأ في ظل دولة الكهنوت الديني والفاشية المتخلفة، مع ذلك كان هو وقود هذه الثورة وضحى بالشهداء من شباب في عمر الزهور بينما كانت القوى المعارضة التقيلدية تستجدي الهبوط الناعم وتنادر مع صلاح قوش في أديس أبابا.
وتختلف هذه الثورة من حيث الشعارات التي تتصدى لأسباب الأزمة السودانية منذ الاستقلال عام 1956م حيث غابت مبادئ الحرية والسلام والعدالة. فقد استمرّت حالة الحرب والفقر والتهميش لقطاعات هائلة من المواطنين، طوال أكثر من 64 عامًا. واختلفت ثورة ديسمبر الشبابية في أنَّ الشباب كان عفيفًا عند المغنم ولم يتهافتوا من أجل المناصب والوظائف وكونوا لجان الأحياء والثورة لحماية الوطن وكشف القوى الظلامية التي تتربص بالحكومة الانتقالية وتعمل على إفشالها بخلق الأزمات والصعوبات.
لكل هذا فثورة ديسمبر ليست مجرد ثورة سياسية بل هي خطٌ فاصلٌ بين السودان القديم والسودان الجديد ويمكن القول إنّها تدشين لعصر نهضة سوداني(Renaissance) كما حدث في أوروبا بعد القرن السابع عشر.
نحن الآن مطالبون بالنضال والتضحية من أجل تأسيس عصر النهضة السوداني، وهذا الإنجاز يحققه إنسان سوداني جديد صاحب قِيَم جديدة وأخلاق جديدة برؤية جديدة للكون والإنسان والمجتمع. وهذا ما نُسميه مهمة بناء البشر في السودان.
الميلاد الجديد للإنسان السوداني يستوجب أشكال معينة من القطيعة مع الماضي خاصةً العادات والممارسات السالبة والضارة والتي لا تُضيف جديدًا أو مفيدًا للمواطن ولا تزيد من إنسانيته وتجعله أكثر إنسانية مما كان في الماضي. وهنا قد يتصدى معارض ويردد مثل: من فات قديمه تأه، ولكن ردي بكل بساطة هو أنَّ قديم الناس في فجر الإسلام كان الجاهلية! الحياة في حالة تغير مستمر والثابت الوحيد هو التغيير والتحول لذلك الماضي ليس كله ورديًا وإيجابيًا والحنين للماضي سببه الوحيد أنه معلوم ومعروف بينما الواقع والمستقبل مجهولان محكمان بالمفاجآت واللا يقين.
ظلّ السوداني يفتخر بأنه كريمٌ وشجاعٌ والنموذج التالي كما تقول قصيدة مادحة عن الإنسان المرغوب:
كاتال في الخلا ** وعقبًا كريم في البيت
شجاع ومقاتل في أرض المعركة ولكنه رغم كل ذلك كريم في المنزل عندما تأتيه ضيفًا أو زائرًا لقد تغيرت خصائص الشجاعة والكرم في عصرنا هذا، فالشجاعة لم تعد قوة الجسم والقدرة على التحمل والصبر في المواقف الصعبة نقول: الشجاعة ساعة صبر، وتحولت إلى شجاعة أخلاقية وفكرية أَي أَنْ تقول رأيك دون خوف أو مجاملة لأحد وأنْ تكون متسقًا مع نفسك ولا تردد القول: (الناس يقولوا شنو لو عملت كده، أو بنات عمي يقولن عني شنو لو لم أثبت في موقف معين) الشجاعة الآن أنْ يكون داخلك وخارجك مثل بعض، وقاضيك الوحيد هو قناعتك وضميرك، أمّا الكرم فلم يعد نحر الذبائح ولا الولائم الفخمة فقد كانت هذه الظاهرة مرتبطة بمجتمع يتّسم بشح الطعام خاصة بين عامة الناس وكانوا يأكلون اللحم الزفر في المناسبات، هذا الوضع تغير لذلك تغير مفهوم الكرم وصار هو التضحية بالوقت والمال ومساندة المحتاجين من فقراء ولاجئين ونازحين في كل أنحاء المعمورة دون أنْ ينتظر الشخص المدح أو الشكر أو مثل القول القديم:
تراه إذا ما جئته متهللاً ** كأنك تعطيه الذي أنت نائله
الكرم صار له بعد إنساني لا يتوقف عند القبيلة أو الأقارب ويمثله الآن (أطباء بلا حدود ومنظمة بيل غيتس الخيرية).
الإنسان السوداني الحديث غير مطالب برفض قيم الكرم والشجاعة بل عليه أن يضعها في السياق المعاصر والحديث لذلك الإنسان السوداني الجديد مع الكرم والشجاعة يجب أن يفتخر بأنه إنسان منتج ومبدع ويقدس العمل بكل همّة ومحبة وأن يحترم الوقت والمواعيد ويرمي بمقولة (مواعيد سودانية) في سلة العيوب والسلبيات..!