نحو مشروع وطني.. البحث عن المسار الديمقراطي الملائم

0 33

كتب:  د. الشفيع خضر سعيد

.

كتبنا في مقالنا السابق، أن الديمقراطية، بمعناها الواسع وبعمقها الحقيقي، هي البند الأول والرئيسي في برنامج التغيير البديل، ومركز الثقل الذي يرتكز عليه هذا البرنامج، والبوابة الوحيدة التي يتحقق من خلالها تغيير الواقع والسير به نحو إنفاذ مشروع البعث النهضوي في السودان. وشددنا على حقيقة أن معنى الديمقراطية يعكس جوهرا ومضمونا ثابتا ومطلقا في الزمان والمكان، دون أي تغيير أو تعديل تحت كل الظروف والأحوال، بل هذا الجوهر والمضمون هو الذي يعطي الديمقراطية اسمها ومعناها. وزدنا، أن مسيرة البشرية، منذ العصور المظلمة، عصور العبودية والإقطاع وسيطرة الكهنوت، عانت ما عانت، ولمئات السنين، حتى توصلت إلى جوهر ومضمون الديمقرطية بانتصار الثورة البرجوازية وترسيخ مفاهيم الليبرالية. أما هذا الجوهر والمضمون فيتمثل في حزمة الحقوق والحريات، كحرية الرأي والتعبير والمعتقد والاختلاف والتظاهر والتنظيم إلى جانب حرية الصحافة والإعلام…الخ، كما يتمثل في سيادة حكم القانون واستقلال القضاء، وفي الفصل بين السلطات، وفي احترام التعددية والتنوع وفق أسس يحددها دستور البلاد، ويكفل ممارستها فعلياً على أرض الواقع بما لا ينتقص من مضمونها تحت أية ذريعة كانت، ويتمثل كذلك في التداول السلمي للسلطة، وفي إكساب كل ذلك بعدا اجتماعيا مرتبطا بتوفير الحاجات المادية للناس. ومن زاوية أخرى مكملة، فإن الحديث عن الديمقراطي لا يأتي مجردا أو مغتربا عن سمات الواقع الذي تُمارس فيه. بمعنى، مع أن جوهر ومضمون الديمقراطية ثابت ومطلق في الزمان والمكان، إلا أن شكل تجليه وتجسيده على أرض الواقع وفي الممارسة، يتم وفق نماذج وصيغ وأشكال متعددة ومتنوعة بحسب السمات الخاصة لكل واقع ملموس في هذا البلد أو ذاك. وإذا أردنا توضيح ما نعنيه بمثال ملموس، فيمكننا القول، إن جوهر ومحتوى ومضمون الديمقراطية في كل من السودان وبريطانيا مثلاً، سيظل واحدا ثابتا، هو نفس الجوهر وذات المضمون والمحتوى، في حين أن شكل تجليها وممارستها الذي يصلح في بريطانيا، أكدت التجربة عدم صلاحيته وعدم ملاءمته للسودان اليوم. ومن هنا التحدي في كيفية ابتداع شكل ملائم لبلادنا، يحافظ على جوهر الديمقراطية ومحتواها الواحد والثابت والمطلق، وفي نفس الوقت يراعي بشكل دقيق، ويستوعب الخصائص المميزة للواقع السوداني بتعرجاته وتعقيداته الإثنية والقبلية والسياسية والدينية والطائفية…الخ. عدم مراعاة هذه الحقيقة كان من ضمن العوامل التي ساهمت في فشل التجارب الديمقراطية في السودان. ولهذا السبب، قلنا إن مفوضية الانتخابات ينتظرها عمل كبير وكثير جدا، ربما أهم جزء فيه هو قيادة تشاور واسع بين مختلف قطاعات الشعب السوداني حتى يتحقق التوافق حول قانون انتخابات ونظام انتخابي يتجاوز سلبيات التجارب الديمقراطية السابقة الناتجة من النقل الأعمى للنظام الديمقراطي ونظام الانتخابات في بلدان الديمقراطية الغربية، ديمقراطية “وستمنستر”، التي أكدت التجربة عدم ملاءمتها للواقع السوداني بتعرجاته وتعقيداته الإثنية والقبلية والسياسية والدينية والطائفية…الخ. وقلنا أيضاً، تعرجات وتعقيدات الواقع السوداني هذه، من المفترض أن تتصدى لها بالبحث والعلاج مفوضية صناعة الدستور والمؤتمر القومي الدستوري، وأن من أهم نواتج هذا العلاج هو إصلاح النظام السياسي في البلد، والذي يحتوي على عدد من البنود من بينها نوع نظام الحكم الذي يكفل نجاح إدارة التنوع والتعدد في البلد، البنيان الدستوري والقانوني، النظام البرلماني والعلاقات بين أجهزة الحكم المختلفة، تنظيم الأحزاب وتنظيم النشاط السياسي على قاعدة مبادئ الحرية والديمقراطية واحترام الآخر، والمشروع الاقتصادي التنموي…الخ.
قلنا، في الفقرة الأولى من هذا المقال، إن انتصار الثورة البرجوازية ومن ثم انطلاقة الثورة الصناعية في غرب العالم، كلل بالنجاح مسيرة البشرية التي ظلت تعاني أشد المعاناة منذ العصور المظلمة، عصور العبودية والإقطاع وسيطرة الكهنوت، ولمئات السنين، حتى توصلت إلى وترسيخ مفاهيم الليبرالية وإكساب الديمقراطية جوهرها ومضمونها، كقيمة مطلقة وعالمية. ونضيف هنا، أن الممارسة الديمقراطية بصيغتها الليبرالية، ترتكز على مبدأ التنافس الحر في ظل وعي متقدم بالحقوق والواجبات، وفي أجواء مشبعة بالشفافية ومسلطة عليها عين الرقابة والمساءلة والمحاسبة وحكم القانون. هذه المبادئ والأجواء وفرها انتصار الثورة البرجوازية في الغرب، عندما حسمت، إلى حد كبير، كوابح ومخلفات ما قبل الثورة البرجوازية، بما في ذلك قضايا التوتر والتنازع العرقي والطائفي وعلاقة الدين بالسياسة، مثلما حسمت قضايا الهوية وبناء الدولة القومية، ثم استعانت بسيطرة آلة نفوذها الاقتصادي لتنعم هي بالسيطرة السياسية في ظل ممارسة ديمقراطية، يقدمها منظروها على أنها القمة، أو “نهاية التاريخ”. وفي الحقيقة، صحيح أن الديمقراطية وفق الصيغة الليبرالية هي النموذج المبهر حتى الآن، لكننا لا نوافق على أن الديمقراطية هي القمة والشكل الأرقى للممارسة السياسية، أو أنها نهاية التاريخ. فمع التطورات الحادثة في النظام الرأسمالي، ووفق ما نشهده اليوم من تصدعات وشقوق في بنية الممارسة السياسية في البلدان الغربية، ظهرت محدودية وتشوهات الشكل أو النموذج الليبرالي للممارسة الديمقراطية. فليس كافيا أن تقف الديمقراطية عند حدود السماح للجماهير بالتعبير عن رأيها فقط من دون المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار!. لكن، ورغم هذه التشوهات والمحدودية، فإن الديمقراطية الليبرالية لم تستنفذ أغراضها بعد، وليس المطلوب من أي شكل جديد أن ينسخها ويلغيها، وإنما ينفيها جدلياً. بمعنى الاحتفاظ بتلك المبادئ والقيم التي أرستها الليبرالية ورسختها في شكل حقوق وحريات وسيادة حكم القانون، واستقلال القضاء والفصل بين السلطات والتداول السلمي للسلطة…الخ، وفي نفس الوقت نفي شكلية الممارسة وزيفها، مثلما هو الحال في بلداننا، ونفي قصورها عن ترجمة إرادة الناس وطموحاتهم إلى واقع حقيقي وملموس.
وإذا كانت الممارسة الديمقراطية بصيغتها الليبرالية في الدول الغربية، ترتكز على مبدأ التنافس الحر في ظل وعي متقدم بالحقوق والواجبات، وفي أجواء مشبعة بالشفافية ومسلطة عليها عين الرقابة والمساءلة والمحاسبة وحكم القانون، كما أشرنا أعلاه، فإن هذه الصورة مغايرة لما هو سائد في بلداننا، حيث تتكبل فيها المنافسة الحرة، وتضعف مبادئ الشفافية والرقابة والمحاسبة وحكم القانون، ومن ثم تتعثر خطوات الممارسة الديمقراطية، وكل ذلك بسبب السمات الخاصة للتطور الاجتماعي والسياسي في بلداننا، وهي سمات تشكلها عدة عوامل، منها: تدخلات الطائفة والقبيلة والدين في السياسة، التي تقوم على طاعة أوامر الزعامات ذات النفوذ الروحي والنفوذ المالي أيضاً، وتفشي الأمية وتدني الوعي، خاصة في الريف، حيث يعيش أغلبية السكان، وكذلك تفشي التوتر العرقي والقومي الذي اتخذ شكل الصراع الدامي بين المركز والأطراف، إضافة إلى ضعف نفوذ البرجوازية الصناعية، أو تبعيتها لرأس المال العالمي، أو سيطرة الفئات الطفيلية عليها والتي لا تعيش وتنمو إلا في ظل الاجواء غير الديمقراطية…إلخ. كل هذه العوامل، وغيرها، أثقلت محتوى مؤسسات الممارسة الديمقراطية في بلداننا، الأحزاب والبرلمان وعملية التنافس الانتخابي نفسه، أثقلته بجوهر تقليدي يخضع للنفوذ الروحي والمادي، ولرباعية الطائفة والقبيلة والدين والمال، وعمقت من تناقضاته الناتجة من تهميش وعدم تلبية مطالب قوى مراكز الإنتاج الحديث (القوى الحديثة)، وفى نفس الوقت تهميش وتجاهل مطالب جماهير الأطراف (مراكز التوتر القومي). والمحصلة النهائية هي هشاشة الممارسة الديمقراطية وفق الصيغة الغربية في بلداننا، ومن الخطأ أن ننقلها بحذافيرها وفق آلية النسخ واللصق، copy & paste، كما ظللنا نفعل في التجارب الديمقراطية الثلاثة السابقة، عقب الاستقلال وعقب ثورة أكتوبر 1964 وعقب انتفاضة أبريل 1985.

أما المطلوب، فمن وجهة نظري هو ابتداع إضافات نوعية تعمق محتوى الديمقراطية التعددية، وتعطيها شكلا جديدا، أرقى وأرحب من الصيغة الليبرالية في الغرب، وأكثر ملاءمة لبلداننا. إضافات من نوع: كيفية إصلاح النظام السياسي والبرلماني، كيفية المواءمة بين أطروحات أحزاب الخيار الإسلامي وعدم تغول الدين على السياسة أو قيام دولة دينية، كيفية المواءمة بين ثقل القوى التقليدية الطائفية وطموحات القوى الحديثة التي تشكل رأس الرمح في عملية التغيير، كيفية وضع قضايا المناطق المهمشة وقضايا الإثنيات في صدر الأولويات وربط ذلك بشعار التوزيع العادل للثروة والسلطة…الخ. فهذه القضايا، وغيرها، أعتقد من الصعب التصدي لها عبر الديمقراطية الليبرالية وفق الممارسة الآنجلوساكسونية أو الأمريكية، ولا بد من إعمال الجهد النظري والفكري ليخرج بأطروحات تحافظ على جوهر الديمقراطية الليبرالية، وفي نفس الوقت تخاطب هذه القضايا المرتبطة بمجتمعات يتدنى تطورها كثيرا عن مجتمعات الغرب الصناعي المتقدم. وأعتقد أن أي شكل جديد للممارسة الديمقراطية ليس بالضرورة أن يؤخذ من مستودع التاريخ، فقدرة الشعوب على الإبداع لا حدود لها، كما أن ما تختزنه هذه الشعوب من تجارب وخبرات وثيقة الصلة بأشكال الديمقراطية المباشرة، حتى على مستوى القرية والعشيرة والقبيلة، يمكن أن يصب في اتجاه بلورة شكل الممارسة الديمقراطية الملائم لواقع هذه الشعوب مع الاحتفاظ بالجوهر الذي أرسته الليبرالية. وفي هذا السياق، أرى أننا في السودان نحتاج إلى تطوير ممارسة الديمقراطية التمثيلية النيابية، وفي نفس الوقت المزج بينها وبين الديمقراطية المباشرة، إضافة إلى ابتداع آليات فعالة تكفل التجديد الذاتي للنظام السياسي في الوقت المناسب، مع مراعاة الظروف الداخلية والخارجية المتغيرة. وفي سبيل تحقيق ذلك، لابد من توفر عدد من الشروط والمقدمات، أهمها:
▪ الحفاظ على محتوى الديمقراطية التعددية وقيمها التي رسختها الليبرالية، والتي أصبحت مطلقا عاما، كما أوضحنا أعلاه.

▪ حسم علاقة الدين والسياسة على أساس أن الأصل هو المواطنة والمساواة أمام القانون، غض النظر عن المعتقد، مع التقيد بالمواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان، وكفالة حرية المعتقد والاجتهاد الديني والفلسفي والبحث العلمي. وإذا توفر كل ذلك، ستبقى مسألة مصادر التشريع قضية يسهل الاتفاق حولها.
▪ التوزيع العادل للموارد والثروة وفق التركيبة السكانية مع إعطاء الأفضلية في التنمية للمناطق الأقل نمواً.
▪ الاتفاق على شكل الحكم اللامركزي الذي يوفر للقوميات والإثنيات المختلفة مشاركة عادلة في السلطة وتمثيلاً حقيقياً على كافة المستويات، بما في ذلك رأس الدولة، والمؤسسات التشريعية والتفيذية القومية والإقليمية والمحلية، والحكم المحلي…الخ.
▪ تجنب النظام الرئاسي بشكله الكلاسيكي، واعتماد إما النظام البرلماني، أو إعطاء صلاحيات محددة لرأس الدولة المكون من ممثلي الأقاليم المختلفة.
▪ بالنسبة للانتخابات، تطوير نظام القائمة/ التمثيل النسبي، وعدم قصر باب التنافس الانتخابي على الأحزاب فقط، مراجعة وتطوير تجربة نظام دوائر الخريجين، ودوائر الفئات والقطاعات التي طبقها نظام النميري…الخ.
▪ تحجيم تدخل الطائفة والقبيلة في السياسة، لا بقرارات وأوامر إدارية، وإنما عبر تدابير اجتماعية واقتصادية وثقافية.
▪ ربط مناهج التعليم بالقضايا الاجتماعية، وقضايا حقوق الإنسان، وتطوير منهج التربية الوطنية.

▪ اتخاذ تدابير اقتصادية لصالح المواطن البسيط، ووضع ذلك في أول سلم الأولويات.
▪ إعمال الفكر لتطوير الديمقراطية المباشرة في مواقع الإنتاج ومجالات السكن وفي سائر محافل المواطنين، والمزج بينها وبين الديمقراطية التمثيلية النيابية. ويدخل ضمن ذلك: + الاعتراف بدور النقابات والمنظمات الطوعية والمبادرة الشعبية، بل والقوات النظامية، في عمليات البناء واتخاذ القرارات الهامة المتعلقة بمصير الوطن. أعتقد أن القوى السياسية السودانية قد انتبهت إلى هذه النقطة عقب انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في 30 يونيو 1989، لذلك طورت فكرة الجبهة المعارضة في صيغة التجمع ثلاثي الأضلاع: القوى السياسية، النقابات، والقوات المسلحة. ولكن أخشى حالياً أن تكون هذه النقطة طواها النسيان! + تطوير آلية الاستفتاء الشعبي والركون إليها في حسم القضايا المصيرية. + ضمان حقوق الأفراد من تعسف الدولة والمجتمع وإفساح المجال إلى أقصى حد أمام النشاط الفردي والمبادرات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.