نريدُ سَلاماً نَهدِيه لأروَاحِ رمُوزنا الذين رحلُوا عنَّا لمَّا مَلُّوا الإنتِظار

0 49

بقلم: عبد العزيز عثمان سام
24 أبريل 2020م،
الموافق للأول من شهرِ رمضان المُعظَّم 1441هـ
رمضان كريم، تصوموا وتفطروا على خير،
. هلَّ علينا الشهر الكريم، ونحن فى شغلٍ عن تحقيق ما وَعدنا به شهداء ثورة ديسمبر 2018م،
فى هذا الشهر الكريم من العام الماضى أعتصم الثوَّار بميدان القيادة العامة الخرطوم، وأقسمُوا على الخلاص “تسقُط بَسْ” حتى سقطَ الطاغية البشير، ولم يسقُط نظامه،
. لم نحقق بعد، من شعارات الثورة الثلاثة سِوى الحُرِّية، واستعصى علينا السلام ليعقبه العدالة، فيرتاح الشعب وينصرف إلى البناء، سنبنيهو،
. والسلام يُوقَّع فى منبر جوبا ويتحقق فى الخرطوم، ولكنَّهم -الأطراف فى جوبا- يسيرون ببطءٍ شديد دون الإيقاع المطلوب، إنّهم مثل تلميذ غير مُكترِث يقبعُ (دوماً) فى الصفِ الخلفى، يشاكس ويشاغل فى انتظار نهاية الفصل ليعود غداً أكثر إهمَالاً، وأقلَّ إكتراثاً، لا يأبَه بأنَّ الوقتَ كالسيف. فمتى تتعجل جوبا الخُطى خَبَباً، نحو السلام ؟،
. نريد سلاماً عادلاً يُثبِّت أركان السودان، وطناً موحَّداً شامخاً، يُقامُ فيه العدلَ لا يتفلَّت منه أحد. والسلام لا يتحقق فى ظلِّ هذا التأخير القاتِل المُحبِط، يجب أنْ يتفاوضَوا والسلام العادل هدفهم الأسمى، ويختلف من أن يتفاوضوا بحساب الربح والخسارة، فالربح الأكبر هو السلام نفسه، السلام الذى يحققه الأطراف بالسمُوِّ فوق الغنائم، وفوق الجراحات والغبائن،
. قلتُ لرفيقٍ يفاوض فى جوبا وقد سألنى بماذا أنصحهم؟ قلت له أن تتعجَّلوا السلام كهدف سامى وإستراتيجى لأن السلام لا يتحقق فى جوبا حاضرة دولة جنوب السودان الشقيقة، لكنه يتحقق فى السودان، فى الخرطوم وكادوقلى وبورتسودان وكسلا والفاشر ومدنى والدمازين وعطبرة وسنار والأبيض ودنقلا والضعين.. يتحقق فى السودان، ويحققه جميع السودانيين،
. والسلام يتحقق فى خشم القربة عندما يحضر الأطراف المتفاوضة فى جوبا، مجتمعين، ليشهدوا تنفيذ حُكم القِصَاص على قَتَلَة الأستاذ أحمد الخير فى مقصلةِ سجنِ كوبر- الخرطوم، ذلك هو القُربان الذى سيذبحه السودانيون على حافة قبرِ النظام البائد، ويشكِّل خط تقسيم مياه بين الماضى الظالِم والمستقبل العادل، فالسلام فى حدِّ ذاته هدف، وغاية يُضرب له أكبَاد الإبل،
. عندما ثبَّتَ الأطرافُ فى جوبا إقرارات مُهِمَّة، بخَطلِ ما كان عليه السودان، كان ذلك حجر الزاوية الذى إنبنَى عليه المنبر منذ نشُوءه الأوَّل، وتظلُّ تلك الإقرارات هى ما نريد ونلتزم بها لبناء السلام من الأوَّل للآخر،
. والسلام ليس وليمة عشاء يلتِهمُه الأطراف فيذهبوا وينامون شبْعَى، لكنَّ السلام عملية ذات صيرُورة سرمدية لا تنتهى، هو أعمال مستمرَّة لتحقيق العدلِ فى كل شئ. وعظمة السلام فى أنه من أسماءِ الله الحُسنى، لا يجوز فيه المختالة. لذلك قلنا لهم وقعوا بالأحرفِ الأولى ثمَّ تعالوا إلى الخرطوم وإنتشروا فى أرض السودان العريض تبشرِّون بالسلام، وتحدِّثون عنه الجميع، وتكتبونه فى لِحَاءِ الأشجار، وتنحتُونه فى ظُلم الحِجارة، وتروحون به للشمس البتقدِل فى مَدَارها، هكذا نريد للسلامِ أن ينداحَ ويسكنُ بيوتناً، ويفرحُ به أهلُنا السُمر الكِرَاما.
. والسودانيون بالخيار: أمَّا أن يسُودَ السلام، أو أن تضربهم الجوائح، كما ضربت جائحة كورونا بلاداً وبِلاد، ولم يسلم منها السودان مصادفة، لكنه نجَا منها لأنه قد ضربته جوائح أسوأ فى سِنّى الإنقاذِ الثلاثين والأن جاء دوره لينعم بالسلام، والله عادل بلا حدود، فأنعموا بالسلام، وإلا حلَّ عليكم غضب الله مرَّة أخرى،
. نريدُ سلاماً يوقَّع فى جوبا قريباً نهديه لأروَاحِ رمُوزنا الذين رحلُوا عنَّا لمَّا مَلُّوا الإنتظار،
فى بحرِ أسبوعين، ونحن رهن الإعتقال المنزلى من جائحة كورونا، فقدنا ثلاثة من أعظم رموزنا الوطنية، فى يوم الأحد الموافق 12 أبريل 2020م رحلَ عن الفانِية البطل الوطنى والرمز الشجاع المُلهم أستاذنا فاروق أبوعيسى، فنعَاه رفيقه دكتور شريف عبد الله حرير بكلمات مُضيئة (فاروق إلى الضِفَّةِ الأخرى حيث يُقيمُ رفاقه من عَمالقة المقاومة التحررية فى السودان 12 أبريل 2020م) فأبكى بنَعيِه ذلك البشر والحَجر معاً،
. ولم تمض أيام قلائل حتى نعى الناعى فى 15 أبريل 2020م بطل التحرير المُلهِم إدورد لينو، رفيق دكتور جون قرنق، الذى ذهب إلى الهند مُستشفياً فصعدت روحه الطاهرة من هناك، فخَيَّم الحزنُ بكُلْكُلِه على النَّاس. وفى مدينة كمبالا وحدَها رأينا أسراباً من النَّاسِ يخرجون من بيوتهم رغم الحَجر الصحِّى، فسألنا ما الخطب؟ قالوا أنتقل إدوارد لينو للرفيق الأعلى فذاهبون لواجب العزاء. الدوامُ للهِ وحده، فقد بلَّغ الرِسالة وأدَّى الأمَانة، فلترقُد رُوحه فى سلام R.I.P،
. ثمَّ طافت بنا المنيَّة مرَّة أخرى، فيوم أمس الخميس 23 أبريل 2020م نعى الناعى دكتور منصور خالد، ومنصور فريد عصره الذى لا يشبَهه أحد، قد رحَل فى هدوء فشُيِّع جُثمانه إلى مقابر أحمد شرفى بأم درمان، مسقط رَأسِه، لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. هكذا أفلَ رموز الحُرِّية والكرامة الإنسانية، وأيقونات الوَعِى والإلهام فى بلدنا الحبيب،
. كما أنتقلَت إلى جوارِ رَبِّها نهار أمس الخميس، والِدة زميلنا ودفعتنا مولانا توفيق عبد الرحمن، التى مرضِت فجأة وفارقت الحياة، فتركت ألمَاً كبيراً وفراغاً نسأل الله أن يلهِمَ توفيق وأسرته وجميع أهل الشبارقة صبرَاً جميلاً، أحسن الله عزاءهم (إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعُون)،
. فيا أطراف مِنبر جوبا، خفِّفُوا عنَّا هذه الآلام فى هذا الشهرِ المبارك بتوقيع اتِّفاق سلامٍ عادل يضع خارطة طريق لتحوّل يتشَكَّل ملامِحه فى الخرطوم ومدن السودان الأخرى، اتفاق سلام نضعه باقات وَرْد على قبورِ عظمَاءنا الذين رحلُوا عنَّا لمَّا ملُّوا الإنتظار. وحِفَاظاً على أرواحٍ أخرى ملّت الإنتظار، لكن رصيد الأمل عندها لم ينفذُ بعد، هيا أحيُوها وأبرِقُونا بالسلام،
. ثُمَّ، ماذا نقول لكم لتتعجلوا خُطى السلام ولا تتنكَّبُوا ؟ ماذا نقول لكم، وبماذا نحفِزكم؟،
. هل ينفع أن نقولَ لكم أنَّ السلامَ قد تحقق فى 11 أبريل 2019م يوم سقوط الطاغية؟ فتعالوا أكمِلوا إسقاط فُلوله ولا يفوتكم شرفٌ عظيم ؟،
. أم نقول للقائد البطل عبد العزيز آدم الحلو تعال إلى الخرطوم وستجد شرطك وآمالك مُحققة على مدرجِ هبوط طائرك الميمون فى مطار الخرطوم؟، وأنت قد وضعت عِلمانية الدولة شرطاً لتوقيع السلام، وكل الشعب السودانى الثائر معك فى عِلمانية الدولة لأنها الأنسب لحُكمِ السودان، والذين يدَّعَوُن للدولةِ دِيناً لا دينَ لهم، فالدولة جمَاد بلا دين. وإنَّما الدين للبشر لتتِمَّة مكارم الأخلاق، والذين حكموا السودان بورقةِ الدين لا خَلاق لهم. فتعال أطلُبها من الشعبِ وسيمِدَّها لكَ بالأكُفِّ التى تتسابق لتحيَّتك، ومع زغاريد الكنداكات التى تنطلق ترحيباً بك.
ثمَّ، ما هى خيارتك الأخرى أيها البطل الحلو؟ ماذا تريد أن تفعل بأهلك السُكَّان الأصليِّين؟ أياك أياك من مغبَّة الخيارات البائِسة، فالسودان خلقَهُ الله ليكون بلداً واحدة متنوعة ومتعددة، والتحدى أن يقرَّ أهله هذه الوحدة فى تعدُّده الفريد، تعال إلى الخرطوم والجميع فى انتظارك،
. ذكَرَ أحد قادة “مسار دارفور” فى منبر جوبا، أن تقدُّماً كبيراً قد أُنِجِز فى المسار فى معرضِ رَدِّه على رفيقه من فصيلٍ آخر صرَّح بأن لا تقدم يُذكر سِوى تسليم المطلوبين للعدالة الدولية.
فإن كان ذلك هو الإنجاز الوحيد فهو انجاز سبق منبركم هذا، فقد أنجزه المجتمع الدولى يوم أحال الوضع فى دارفور إلى المدعى لدى المحكمة الجنائية الدولية فى بداية يوليو 2002م واتفاقكم على تسليم الصادر بحَقِّهم أوامر قبض هو تحصيل حاصل، وليس انجازاً تضعوه تاجاً، تعالوا لإنجاز السلام فى السودان فليس لكم ما تفعلون فى جوبا، المكوث فى جوبا مضيعة للوقت، وعبث لا طائِل منه،
. تعالوا إلى السودان لإسنادِ مشروع الثورة وتكمِيله، ولصُنعِ السلام بوقف الحرب التى هى عملياً قد إنتهت، تعالوا لقفلِ صفحة الحرب وانجاز مهام السلام، وأعلموا أن وجودَكم فى جوبا هو هروب من دفعِ سَهمِكم فى ملحمة الثورة، لذلك وقِّعُوا محضراً تنهُون به وجودكم فى جوبا، وأعلموا أنَّ السلام الحقيقى يتم فى السودان وليس فى جوبا. وأعلموا أن الشعب السودانى هو من سيضغط على الجميع لدفع إستحقاقات السلام وتنفيذ بنوده وليس أطراف التفاوض الذين لا حول لهم ولا قوَّة، القوة والسيادة والسلطة للشعب،
. وقال قائِلهم: أن منبر جوبا حقق مبلغ خمسمائة مليون دولار أمريكى سنوياً لتنمية إقليم دارفور، تدفع كل عام ولمُدَّةِ عشرِ سنوات، ونقول هذه أمانى طيبة وبشائر للسلام، وإذا حضرتم فى سلامٍ حقيقى إلى السودان ستجدون أكثر من هذا إذا تحقق الشِعار الثالث للثورة وهى العدالة، والعدالة لن تتحقق إلا بتحقُقِ السلام. والعدالة يناط بها أجهزة الدولة الإنتقالية كلها، سيادية وتشريعية وتنفيذية، وتكونُ الحركات المسلَّحة التى تفاوض فى جوبا جزءً أصيلاً فيها، ساندة وداعمة ومُنفِّذة لبرامج الفترة الإنتقالية، وتتغيَّر مواقف المجتمع الدولى من الدولة العميقة القائمة الآن فى السودان ويُزال فلول النظام السابق، فتقوم دولة حُرِّية سلام وعدالة،
. وأنصحكم أن ضَمِّنُوا نصَّاً فى سلام جوبا يميِّزَكم للأبد، نصَّاً صريحا يجرِّمُ العنصرية وخطاب الكراهية فى السودان، فالعنصرية وخطاب الكراهية هُما أسّ أدْوَاء السودان وهى ثقافة راسخة فى وجدان أهلِ المركز الذى يحكُم السودان ظلماً وقسراً وقهراً منذ خروج الإنجليز، وبالقضاءِ على العنصرية ينتفى خطاب الكراهية، وتسُودُ العدالة التى تساوى بين المواطنين، وبالمواطنة المتساوية لجميع السودانين تقوم دولة العدل وحينها نسمِّى هذه الأرض (جمهورية السودان)،
. وما لم توقِّعوا وثيقة سلام إطارية وتعودوا إلى الوطن، سيظل الثوَّار محبطون وبلا حِماية، ولا أحد يجرؤ على المطالبة بتقديم من فضُّوا إعتصام بالقيادة العامة فى رمضان الماضى للعدالة، ويظلّ العسكر بكُلِّ تشكيلاتهم يهيمنون ويرهبون ويقتلون بلا حسيب فى أبشع أشكال الإفلات من العِقاب. والعسكر فى السودان طبقة فوق المجتمع فالتة من العدالة والمحاسبة، لا يخضع لحكم القانون، إنهم وحوش قَتَلَة يحكمون السودان بلا حق، ومن أعلى أبراج السلطة،
. ولن يحدث أى تحول أو انتقال سياسى حتى يُوقع صكّ سلام فى جوبا ليبدأ بموجبه بناء السلام والسودان معاً من الداخل، للانتقال إلى الضِفَّةِ الأخرى، والعُشبُ أكثر إخضِرَارَاً على الجَانبِ الأخر من السِيَاج.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.