هاشم كرار ..الصحافي القصاص الذي جمل الحياة
كتب: صلاح شعيب
.
هاشم كرار هو التميز عينه وسط صحافينا المبدعين الذين ملكوا زمامَ المهنة، وحرفَها، والمتاعب. فحِذقُ قلمه رافقه منذ التحاقه بالصحافة التي جاء إليها قاصاً مكتملاً ينسج نمنمات من حكايا، وسمر، وحبكات.
لقد تربت الصحافة السودانية في كنف الأدب، والعكس صحيح. وكان معظم الجيل الأدبي الرائد في السودان ممن كانت له علاقة بالمهنة، بدء من جيل عرفات محمد عبدالله، ومرورا بجيل منير صالح عبد القادر، إلى محمد الفيتوري، ومصطفى سند، وعيسى الحلو، وعبد الهادي الصديق، ونبيل غالي إلى جيل الصادق الرضي.
كانت الصحافة مهنة الأدباء، وهاشم كرار امتداد لجيل الصحافيين الأدباء. فعبر القصة القصيرة، ونثره العميق، دخل المهنة فنمقها بكتاباته التي كنا نقرأها له في الأيام في مجدها التحريري، والأدبي.إنك تقرأ له فتحس كأنه عازف ساكس مضبوط التون. وأحيانا يلون مقاله بشكل تحس بأنه فنان تشكيلي يدهن لوحته باللون البنفسج دائما. والدراما تتبعه في كل قصصه الضاجة بالحركة، ولا تنفك عن شخوصه النبلاء، والفقراء الفواكه، واولئك المساخيط. وفضلا عن ذلك تظل مقالاته السياسية مغموسة في الأدب، وإن شئت فهي أدب السياسية.
ولعل الأستاذ هاشم كرار قد تمثل قول الشاعر التيجاني يوسف بشير الذي قال:
“الصحافة يا بنت السماء ونزيلة الأرض.. ويا سِر التقدم الإنساني.. موقظةُ الأجيال من سبات الغفلة والجمود .. الصحافةُ هي النور المنبعث على سماء الفضيلة والملقي بدلائلها على أرض بسطتها أيدي العقول وفضاءٌ دبجته يدُ العبقرية على طريق وعر وشائك لا تَعبدُه المعاولُ ولا تُصلحُه البنادق”
في كتابات هاشم تجد مقتطعات لنصوص غنائية لكثير من الفنانين. ولكنه ظل حفيا بهاشم ميرغني الذي أدرك وقته أيضاً في الدوحة، وكان قريبا من الراحل، وأشار اليه في غير ما مرة، وهاشم وهاشم نبتتان انزرعتا لتخضر جمال الحياة السودانية، وحين رحل الفنان رثاه بقريضه المكلوم:
يقول عنه زميله الأستاذ جعفر عباس: “صديقي هاشم كرار شخص طويل القامة فسيولوجيا ومهنيا، وهو من تلك الطينة الصحفية العصية على التلوث والتلوّن، فما غمس قلمه قط في حبر النفاق، أو الخور، أو الملق، بل كرسه لخدمة الحق والحقيقة، فعاش طوال عمره المهني شريفا، ونظيفا، وعفيفا”
ولأنه هكذا كانت حوارات هاشم تبحث عن المبدعين الذين حملوا الوطن فقد أجرى أجمل الحوارات مع رموز الفن، ووثق الأيام الأخيرة للراحل مصطفى سيد أحمد الذي قال له:
“منذ وقت مبكر أدركت دور الفنان عبر التاريخ، مثلي مثل غيري خرجت من صلب شعبي غير أنني رأيت في الأغنية شيئاً مبتذلاً إذا لم تحمل هذه الأغنية هموم هذا الشعب وعذاباته وأمانيه وتطلعاته، ومنذ البداية، أيضا وضعت نفسي تلميذاً في مدرسة هذا الشعب أتعلم منه وأشاركه همومه اليومية قضاياه انفعالاته، وتشوقه، للمستقبل”
وكأن حديث مصطفى بلسان هاشم فهو أيضاً مثل فناننا الراحل. فقد ظل في صحافته يسعى لتحقيق تطلعات شعبه، وامانيه. ولذلك فلا غروَ أن التقى هاشم بمصطفى
منذ أيام الحصاحيصا إذ هي الجزيرة تخصب المدد الإبداعي دائما في عاصمة البلاد. الطغاة ما زالوا يحاولون، طاغية من بعد طاغية.. ولم يستطع أيٌ منهم، أن يسجن فكرةً، أو يحبس أنفاسها، أو يغتالها بطلقة، أو يلفَ حبلا غليظا حول رقبتها، ليطقطق فقراتِ عنقها وفقرات عظام ظهرها، والمشنقةُ تصرخ صرختها الهستيرية ستظل الأفكار طليقة..وستظل الزنازين للطغاة
على المستوى الاجتماعي ظل هاشم إنسانا شفيفا، ونبيلا، ولذلك كثر أصدقاؤه من كل الأوساط وحينما الم به وعكته التي سيقوم منها معافيا بإذن الله تقاطر الناس للتخفيف عنه، وأسرته. ولكن هاشما ظل عبر كل هذا الحب نحوه يقابل زواره بابتسامته التي بها سينتصر، ويعود لمواصلة رحلة الفريق السوداني نحو النشوق الأخير. ذلك حتى يعطر الناس بالوداد، والحبور، والسؤدد.
فشخص مثله تعلمه انت الربُ القُدوس، وتعلم أننا نحتاجه على الدوام ليخفف عنا غلواء الحال بصحافته المسؤولة، وقصصه المؤنسة، ومنثوراته التي تبذر في القلب محبة في بستان الوجود. فهو آنئذ خليفتك يا الله في الأرض مشى في مناكبها بجمال الروح، وما بذل حياته إلا لإسعاد الناس فحببته إليهم.
وعسى تنزل رحمتك على جسده النحيل بقلبه الكبير. فنحن نحتاج إلى هاشم، ونتضرع إليك جميعا في صلواتنا، وملماتنا، وحلمنا أن تحفه بتمام الصحة، وأن تحفظَه لأسرته، وأهله، وبلاده. فمقامُه عند أهل السودان كبير، وقلمُه عند عارفي فضله مميز، ومبروك، وسيرتُه في هجرته عرفت نبله وسط السودانيين، وصدق صحافته جعلتنا جديرين بالاحترام هناك.