هذا هراء السياسة فأين السياسات؟
كتب: د. النور حمد
ظل الأستاذ عثمان ميرغني يتساءل مرارًا وتكرارًا: أين خطط وبرامج هذه الثورة؟ وهذا، دون شك، سؤال مركزي. فالثورة تعني، بالضرورة، أن هناك تطلعًا ملحًا للتغيير، لا يحتمل الإرجاء. هذا التطلُّع المُلح هو ما دفع بالناس إلى الشوارع، ووضعهم في مواجهة النظام المدحور، بكل ما كانت تحمله تلك المواجهة من أخطار. لابد لأي تغيير من خططٍ وبرامج، لكن، لا يبدو أن نخبنا السياسية بعقليتها المنحبسة في أطر الماضي ومفاهيمه، منشغلة بهذا. هي، كما عودتنا دائمًا تتصارع، على الأسلاب؛ من توسيعٍ للحيِّز السياسي، والحصول على مقعدٍ في السلطة، ومن ثم، فتح باب للثروة والوجاهة. لذلك يسيطر عليها هذا الانهماك في القضايا الإجرائية. يقوم هذا النهج المُقعد على فكرةٍ يمكن تلخيصها في الآتي: دعوني أُمسك بالسلطة أولا، ولسوف يكون كل شيء، بعد ذلك، على ما يرام.
بدلاً من أن تصبح الفترة الانتقالية تباريًا بين القوى السياسية في تقديم الخطط والبرامج الإصلاحية والإنمائية، التي من شأنها أن تدعم الانتقال من وضع العجز الذي انحبسنا فيه لعقود، إلى وضع الحراك الثوري العارم في دروب التنمية والنهضة الشاملة، على مختلف الجبهات، انشغلت القوى السياسية بإضعاف الفترة الانتقالية، لتصل بأقصر طريق إلى السلطة. تضافرت جهود مختلف النخب السياسية وتحت مختلف الذرائع الديماغوجية لإضعاف حكومة حمدوك، ودمغها بالفشل؛ وزيرًا، عقب زير، تارةً، ومجتمعةً، تارةً أخرى. هذا النهج، هو ما يمكن أن نطلق عليه “هراء السياسة”. وهو ذات النهج الذي ظل فاعلاً لدينا منذ الاستقلال، وحتى يومنا هذا. وهو ما جعل بلادنا في ذيل القافلة البشرية في كل شيء. لا ترى نخبنا السياسية، التخلف المريع لواقعنا، ولا تحدياته الجسيمة، وإنما ترى، فقط، خصومًا سياسيين، لا ينبغي أن يحتلوا معها موقعًا في الساحة. لذلك، فإن الأولوية، قبل كل شيء آخر، هي إزاحتهم، كليًا، أو إضعافهم إلى أقصى مدى ممكن.
لقد ظل اليمين السوداني، واليسار السوداني، يتبادلون إقصاء بعضهم، عبر منعرجات تجربتنا السياسية لفترة ما بعد الاستقلال. وقد جسدت هذه المسيرة المضطربة تطبيقًا عمليًا، لهذا الفهم القاصر للسياسة. لكن، الأمل، كل الأمل، في هذه الأجيال الجديدة، التي أنجزت هذه الثورة العظيمة، في أن تخلق لنفسها، جسمًا سياسيًا جديدًا، أو أن يضغط المنتمون منهم إلى الأحزاب القائمة، على أحزابهم لكي تغير تصوراتها، ونهجها، بل، وحتى قياداتها، لإخراج الممارسة السياسية من هذا الطرق المُقعد. ما نحتاجه في الفترة الانتقالية خطط وبرامج لإعادة حكم القانون وإعادة المؤسسية إلى أجهزة الدولة، وأن نضع السياسات والضوابط المانعة، كليًّا، للفساد. كما نحتاج خططا ًلإعادة إعمار الريف، وتشغيل الشباب، وتمويل مشاريعهم الانتاجية، وتوسيع البنى التحتية، وزيادة الانتاج وإصلاح النظام التعليمي والصحي، وإصلاح الحكم المحلي، والسياسة الخارجية. وأن تصبح هذه خطة الجميع التي ينبغي أن تتضافر كل الجهود لإنجاحها. أما الانحصار في تكتيكات الوصول إلى المقعد، عن طريق ضرب الفترة الانتقالية، وتهميش دور الثوار، فهو من جنس النهج الذي أنتج ركام الفشل الضخم، المتجسد في حياتنا. وأرجو أن تكون فرص نجاحه قد ضؤلت أو انغلق بابها بعد هذه الثورة.
٣٧٠
٩٣ تعليقًا
٩٢ مشاركة
أعجبني
تعليق
مشاركة