“هذه الأزمة”!!
كتب: د. خالد التيجاني النور
.
(1)
إن كانت من كلمة جامعة لمعنى ما تشهد البلاد حقاً من تطورات خطيرة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها فهي ما استخدمه السيد رئيس الوزراء دكتور عبد الله حمدوك من تعبير في مفتتح خطابه بوصف “هذه الأزمة”، صحيح أنها تبدو أخف وطأة من الواقع المنذر، وإن كان استدرك ذلك لاحقاً في خطابه وهو يحذّر من مآلات والعواقب الوخيمة، ولكن مجرد الإقرار بأن هناك “أزمة” فهذه خطوة كبيرة في ظل حالة إنكار درجت عليها الطبقة الحاكمة الجديدة هروباً من مواجهة حقيقة أن الفرص والآمال العريضة التي فتحت ثورة ديسمبر المجيدة طاقات الأمل عليها لوضع البلاد على طريق تغيير حقيقي، ها هي تتحول في غضون أقل من عامين إلى “أزمة” أو بالأحرى طريق مسدود.
(2)
لم يكن الدكتور حمدوك بحاجة للدفاع عن نفسه في وجه الانتقادات التي توجه إليه من جميع الأطراف وفي مقدمتهم “شركاء الانتقال” بجناحيهم العسكري والمدني، فهو لم يكن مهندس الاتفاق السياسي، ولا عرّاب الوثيقة الدستورية، وجاء إلى موقع التنفيذي الأول محل اتفاق كجزء من فريق يُفترض أن استحقاقات الانتقال التي تم التوافق عليها بين المكونين المدني والعسكري سيكونان عند مستوى المسؤولية والالتزام والاستقامة الأخلاقية للقيام بها وفاءً لدماء الشهداء والتضحيات الكبيرة التي قدمها الجيل الجديد من أجل التغيير وبناء غد أفضل، وبالتالي فإن مسؤولية رئيس الوزراء ونجاحه في مهمته تبقى رهينة بالتزام الطرفين بتعهداتهما للشعب وقد انتدبا أنفسهما للوكالة عنه في إنجاز مهمة الانتقال، ولذلك من يتحمل المسؤولية الأكبر عن أي إخفاق في إدارة الانتقال هم قادة المكونين المدني والعسكري.
(3)
كان الدكتور حمدوك يحتاج لأن يسمى الأشياء بمسمياتها، صحيح أنه يتحمل قسطه من المسؤولية بحكم منصبه، ولكن تشخيصه المتساهل في توصيف “الأزمة” يسهم في إيجاد غطاء للمتسببين الحقيقيين فيها، فالأزمة في جوهرها ليست اقتصادية، ولا أمنية، فهذه مهما استفحلت تبقى مجرد أعراض ومظاهر، ذلك أن الأزمة بالأساس هي أزمة سياسية بامتياز، تتعلق بمدى سلامة الإطار السياسي الذي تجري فيه عملية الانتقال بما يجب أن يخدم فعلاً متطلبات واستحقاقات التحول الديمقرطي.
(4)
وما يحدث على أرض الواقع أن السبب الحقيقي في فشل معادلة الانتقال الحالية يعود لانقلاب شركاء الاتفاق السياسي في المجلس العسكري الانتقالي، وقوى الحرية والتغيير اللذين تواطوء على التلاعب بالوثيقة الدستورية، وائتمروا بغير معروف في عدم الوفاء باستحقاقاتها الملزمة، ليس عن غفلة ولا قلة حيلة، بل لأن ذاك ضروري في حسابات الائتلاف الخفي الذي نشأ بين أطراف في المكون العسكري وعدد من تنظيمات قحت المنبتة الجذور في المجتمع السوداني، والتي من فرط معرفتها لحجمها الضئيل في أي استحقاق انتخابي، قررت اختطاف عملية الانتقال برمتها، والعمل على استطالتها هروباً من أي استحقاق أو اختبار جماهيري لأوزانها الحقيقية، وكانت وسيلتها في ذلك بذل كل ما في وسعها لتعطيل وعرقلة أي استحقاقات للوثيقة الدستورية لتضمن احتكار القرار.
(4)
وما يزيد الطين بلة أن الطبقة الحاكمة التي اختطفت القرار واستحقاقات الفترة الانتقالية لا تفعل ذلك بواعز وطني من باب ، بل تقوم بذلك بلا مواربة من أجل خدمة أجندة أطراف خارجية، وهو أمر لم يعد سراً فقد بات في باب العلم العام، ولذلك انشغلت بذلك واكتفت به عن أي جهود لبناء أحزابها وتنظيماتها، وها قد مر عامان دون أن يحدث حزب واحد منها نفسه بإقامة أنشطة حزبية تنتهي بعقد مؤتمرات عامة تنتخب فيها قياداتها، والنتيجة هذا الفراغ السياسي العريض الذي تعيشه البلاد، وهذا الافتقار لقيادات ذات وزن، وللمفارقة فقد اختبأ قادة هذه التنظيمات في كواليس السلطة مشغولين بقضايا ذاتية صغيرة، لا يكاد بسمع لهم أحد حساً ولا خبراً، في دلالة على عزلتهم غير المجيدة عن القواعد الشعبية الذين يفترض أنهم من من يمثلونهم.
(5)
ولذلك بدلاً عن حروب طواحين هواء مع شخصيات هلامية يسعون لخلق الفوضى، كما ذهب إلى ذلك الدكتور حمدوك،، وسبب الفوضى الحقيقي هو تلاعب الشركاء باستحقاقاتها، فالتدهور السياسي أو الأمني ليس بسبب التشظي الذي حدث بين مكونات الثورة، والذي ترك فراغاً تسلَّل منه أعداؤها وأنصار النظام البائد”، ولا تتعلق المسألة “بتوحيد وتُنظِّم صفوفها”، بل المطلوب حقاً إيقاف هذه المسرحية الحزبية العبثية التي اختطفت الوثيقة الدستورية لصالحها أجندتها الضيقة على حساب أجندة الوطن.