هل التطبيع مع إسرائيل غدر وخيانة؟

0 158
كتب: د. الشفيع خضر سعيد 
.

كان واضحا، منذ الوهلة الأولى، ولأي مبتدئ في عالم السياسة، أن أمريكا ستشترط تطبيع السودان علاقاته مع إسرائيل، لشطب إسمه من لائحة الدول الراعية للإرهاب. لذلك، توقعت أن تنخرط مؤسسات الفترة الإنتقالية، ليس أجهزة الحكم وحدها وإنما معها الحاضنة السياسية، ومن وقت مبكر، في دراسة السيناريوهات المحتملة لإتخاذ موقف إستراتيجي يتم على أساسه الإجابة على سؤال كيف سيتصرف السودان إذا وجد نفسه مطالبا، أو مضغوطا، لتطبيع علاقته مع إسرائيل، مقابل فك خناقه الإقتصادي، لا الإنتظار حتى آخر لحظة ومحاولة تلتيق رد فعل سريع ولحظي، وللأسف غير حقيقي، إزاء شرط التطبيع الذي طرحه وزير الخارجية الأمريكي عند زيارته الأخيرة للخرطوم، وكما أثبتت مجريات الأحداث اللاحقة. وللأسف، رغم إدعاءات أكثر من مسؤول حكومي بأننا نجحنا في الفصل بين قضيتي التطبيع ورفع السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، فإن كل المؤشرات، بما فيها تغريدات المسؤولين في واشنطن وتل أبيب، كانت تشير إلى عكس ذلك تماما، وأنه لا فكاك بين القضيتين!. وهكذا، تستمرئ حكومتنا ذبح مبدأ الشفافية ومواصلة سياسة دفن الرؤوس في الرمال وعدم مواجهة الناس بالحقائق، مما يظهرها بالضعف وعدم الثقة، ويغري الآخرين بمواصلة ضغطها واستنزافها، بل وإستصغارها لدرجة أن شعب السودان سمع بأن بلاده طبعت علاقاتها مع إسرائيل من الرئيس ترامب والمسؤولين الإسرائيليين، لا من حكومته، ولدرجة أن شعب السودان سمع من الإعلام الأمريكي وليس من أي جهة سودانية بأن السودان أدرج حزب الله اللبناني ضمن المنظمات الإرهابية، وحتى اللحظة لم يصدر تعليق من أي مسؤول في حكومتنا حول هذا الأمر! وعموما، أعتقد أن الوضع الآن لا يتحمل التلكوء أو البحث عن فرص التراجع، وإنما المطلوب هو مواصلة السير بخطى ثابتة إلى الأمام وفق رؤية واضحة ومحددة، وفي هذا الصدد أرى الإلتزام والتقيد بالأسس التالية:

أولا، لابد من رؤية إستراتيجية بالنسبة للخطوات القادمة فيما يخص التطبيع، بل ويخص مجمل سياستنا الخارجية. صحيح أن هذه الرؤية الإستراتيجية سترسمها أجهزة الدولة المختصة، لكن ليس عبر النشاط البيروقراطي والدواويني المحض، وإنما من خلال التفاعلات والتقاطعات السياسية والفكرية مع القوى السياسية الداعمة للحكومة والمعارضة لها، وعلى مستوى القواعد مع المؤسسات والمنظمات الجماهيرية والمدنية المختلفة، ويتم بلورتها في برنامج محكم التخطيط ومحدد الأهداف، بما يحقق مصالح البلاد وجماهير الشعب، وليس مصالح النخبة الحاكمة فقط، بعيدا عن سياسات الصفقات والمحاور، ووفقا للمبادئ المتوافق عليها دوليا. فبدون هذه الرؤية الإستراتيجية، ستتسم كل تحركاتنا في جبهة السياسة الخارجية بالعشوائية، وتبدوا كمجرد رد فعل لسياسات الآخرين، مما يجعلنا في وضعية البلد الأضعف التي يستخف بها الآخرون. وفي مثل قضية خطيرة كقضية التطبيع مع إسرائيل، يجب ألا يكون السودان مجرد كرت إنتخابي، عند واشنطن اليوم وعند تل أبيب غدا، يتم حرقه بعد إنتهاء اللعبة، أو مجرد أراضي زراعية شاسعة وخصبة لتوفير الغذاء للآخرين، والعلف لمواشيهم. وبنفس القدر، لا يجوز أن تكون قضية التطبيع بؤرة للتصدع والشقاق الداخلي وفق منطق من يقبل بالتطبيع هو خائن للقضية الفلسطينية، ومن يرفض هو ضد مصلحة الوطن. وفي هذا الصدد لابد أن تتخلى حكومتنا عن ممارسة دفن الرؤوس في الرمال، فتتقيد بمبدأ الشفافية والمكاشفة الصريحة مع شعبها، وبالطرق على ما يوحد الناس داخل البلد لا على ما يسبب التصدعات وسطهم، فالتصدع والتشقق في بنيان الفترة الإنتقالية هما المدخل المريح لعرقلة مسيرة ثورتنا العظيمة .

ثانيا، من الضروري جدا الإعتراف والإقرار، من قبل الحكومة والشعب، بأن السودان لن يتحول إلى جنة الله في الأرض وتحل كل أزماته الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، بمجرد رضا أمريكا عنه ورفعه من لائحة الإرهاب وتطبيع علاقاته مع إسرائيل. فمفتاح حل أزمات البلاد موجود في داخلها، لا خارجها، في السياسات والبرامج التي تتبناها الدولة، وأبدا لن تُحل مشاكل أي بلد من خارجه.

ثالثا، أعتقد، مبدئيا وسياسيا وأخلاقيا، إن أي تقارب أو تطبيع مع إسرائيل يجب ألا يكون على حساب الحق الفلسطيني، وألا نتزحزح قيد أنملة عن قرار الأمم المتحدة رقم 19/67، الذي اعترف بفلسطين دولة تحت الإحتلال وعاصمتها القدس على حدود 4 يونيو 1967، والقرار رقم 194 الذي يكفل للاجئين الفلسطينيين حق العودة إلى ديارهم التي هجّروا منها 1948، وأن نواصل دعم المقاومة الفلسطينية. فالتطبيع مع إسرائيل لا يعني أبدا التنازل عن هذا الموقف المبدئي، مثلما لا يعني الخضوع للإرادة الأمريكية والإسرائيلية.

تاريخ العرب، في نزاعهم مع إسرائيل، مليئ بخيبات كثيرة، بدءا بالنكبة 1948، ثم النكسة 1967، فالإنقسام والتفتت وغياب الموقف الموحد، عربيا وفلسطينيا، وإنعدام الرؤية والإرادة عند القيادات العربية، حكاما وفي الشارع، وضعف الجيوش العربية والمقاومة الفلسطينية مقارنة بإسرائيل وداعمها الأمريكي، رغم الإمكانات والأموال العربية الضخمة، ورغم لاءات الخرطوم الثلاثة 1967. وبعد حرب أكتوبر 1973، وبزيارة الرئيس السادات لإسرائيل، 19 نوفمبر 1977، والتي كسر بها الحاجز النفسي العربي تجاه إسرائيل، كما كان يقول، بدأ التحلل الفعلي والعملي من قرارات قمة اللاءات الثلاثة، وإكتمل بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، 1979، والتي على ضوءها تم تبادل العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين مصر وإسرائيل، وتم فتح المكاتب التجارية ومكاتب الإتصال مع إسرائيل في عدة بلدان عربية أخرى، كما تمت تفاهمات أخرى، بعضها معلن وبعضها سري، بين إسرائيل وأنظمة وجهات عربية فلسطينية، وصولا إلى رسائل الاعتراف المتبادلة بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحق رابين، في 9 سبتمبر 1993، والتي بمقتضاها إعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني، وأعلنت عن قرارها بدء المفاوضات معها. ومن جهتها إعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في العيش بسلام وأمن، وتعهدت بإلغاء البنود التي تنفي وجود إسرائيل في الميثاق الوطني الفلسطيني، وبالإمتناع عن إستخدام العنف تجاهها، ملتزمة بحل النزاع بين الطرفين بالطرق السلمية وعبر التفاوض. وقد كانت تلك الرسائل بمثابة الديباجة لإتفاق أوسلو الموقع بين الطرفين في واشنطن 1995، والذي يعتبر منعطفا مهما في مسار القضية الفلسطينية، حيث أنهى النزاع المسلح بين الجانبين، ورتب لإقامة سلطة وطنية فلسطينية في الضفة الغربية وغزة. وهكذا، جاءت تلك اللقاءات العربية الإسرائيلية، السرية أو العلنية، ثم الإتفاقات التي وقعتها بعض الأنظمة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل، ناسفة لقرارت مؤتمر قمة اللاءات الثلاثة. كما أن قرارات الجامعة العربية والقمم العربية ظلت بإستمرار تؤكد على مقاطعة إسرائيل وعزلها دوليا، إلا أن هذه المقاطعة وهذه العزلة لم تتحققا أبدا. وأعتقد أن الكثيرين، ومن ضمنهم شخصي، أدركوا معنى ومغذى ذلك كله. فمادام خط المفاوضات حول القضية الفلسطينية هو السائد والمقبول، ليس دوليا فحسب، بل وعربيا أيضا، ويشمل ذلك القيادات الفلسطينية نفسها، بما فيها حماس، فالتطبيع مع إسرائيل وارد وإن طال الزمن، وفكرة إزالة إسرائيل من الوجود أصبحت مشكوكا فيها.

لا يستطيع أحد نكران أن العلاقة مع إسرائيل ظلت، حتى لفترة قريبة، تعتبر من أشهر التابوهات في العالم العربي. فبسبب نشأتها وسياساتها وافعالها البغيضة تجاه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، تجذر وترسخ في وعي الشعوب العربية أن إسرائيل هي العدو الأول، وحُرّم تطبيع العلاقات معها، وأُدخلت تهمة العمالة لإسرائيل ضمن مفردات الخصومة السياسية. لكن، اليوم جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وشهد عالمنا متغيّرات وتطورات عاصفة وكبيرة تستوجب إعادة النظر وإعادة التفكير والخروج بإستنتاجات وخلاصات جديدة تتماشى وهذه المتغيرات. فعلى عكس أجيالنا والأجيال السابقة لنا، فإن الأجيال الشابة الجديدة، أجيال قوى التغيير، ترفض أن تُعتقل في زنازين مواصلة إجترار انجراح الذات العربية، وبكائيات خيبات “النكسة”. وهي، في الغالب، تتعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كقضية سياسية قابلة للحل بغير معيار النصر والهزيمة. أما فيما يخص الضغوط الأجنبية والأطماع الخارجية التي تتعرض لها المنطقة العربية، فإن معيار شباب التغيير في مقاومتها أو التعامل معها، سيكون لصالح أن تتصدر مصالح الشعوب قائمة الأولويات، لا سيما وإن هؤلاء الشباب لا يحملون أي عقدة تجاه “الخواجة”. أيضا، من المتوقع أن يشهد عصرنا الراهن تخلق نموذج معرفي جديد يقوم على الإنخراط في سلسلة من الأنشطة العلمية، عبر المؤهلين المتخصصين في مجالات المعرفة المختلفة، لا لصياغة شعارات عامة أو هتافات تحريضية مؤقتة التأثير، وإنما لصياغة برامج علمية المحتوى، تعكس نبض الشارع وتعبر عن مفهوم النهضة العربية الحديثة، وتدفع بقوة في إتجاه بناء مشروع نهضوي جديد لا يخضع لأي تابوهات سياسية أو عقدة العصبية القومية، وفي نفس الوقت يستثمر إيجابيات العولمة إلى أقصى حد ممكن. وفي هذا السياق، أعتقد ستتسع أكثر فأكثر دائرة الناظرين بإيجابية إلى مسألة التطبيع مع إسرائيل، مثلما سيتم تقديم إجابات جديدة، تختلف عن تلك التي كانت تقدمها أجيالنا والأجيال السابقة، لسؤال إزالة إسرائيل من الوجود، وسؤال إمكانية التعايش مع فكرة حل الدولتين.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.