هل تتراجع محبة السودانيين لمصر؟

0 173

العامل الخارجي غالباً ما يكون مؤثراً في توتير العلاقات بين البلدين فما قامت به بريطانيا سابقاً تقوم به إثيوبيا حالياً.

كتبت د. أماني الطويل:

تفاجأ عموم المصريين المتابعين لمواقع التواصل الاجتماعي، ولا يتابعون الأحوال السودانية بشكل لصيق، بخطابات سودانية غير صديقة، فارقت المجال السياسي المعتاد فيه التراشق بين الطرفين، بسبب سدّ النهضة، إلى مجالات إنسانية عزّ فيها على المصريين أن يروا مساحات المحبة تتراجع لهم في السودان، وهم المحبون والمرحبون بملايين السودانيين على “أرض الكنانة”، بل إن أبناء وادي النيل الذين عاشوا معاً في المهاجر المتنوعة ربطتهم أوثق العلاقات الإنسانية.

فما الذي يجري بين المصريين والسودانيين وهل مشكلات الإدراك بين البلدين جديدة أم هي تاريخية؟ ما هي الأسباب السياسية والثقافية لاندلاع التراشق في مجالات الرأي العام؟ وهل من دورٍ للعامل الخارجي في هذه العلاقة، وكيف يمكن النجاة بالبلدين الشقيقين من هذه الهاوية التي تمنع فرص التلاقي الاقتصادي في الأقل ليصنع البلدان تكاملاً تسعي إليه اليوم كل أفريقيا، وربما لا تتوفّر ظروفه كما تتوفّر في وادي النيل؟

عودة إلى التاريخ 

حكمت مصر السودان بالمشاركة مع بريطانيا العظمى منذ عام 1899 وحتى عام 1956، في علاقة سادها الكثير من الالتباس، ذلك أن بريطانيا قد استعمرت كلا من مصر والسودان، ولكنها لم تعطِ لمصر فرصة لتكون حاكماً فعليا على الأرض، فيما استغلت مواردها لبعض التطوير التنموي في السودان، وهذه المعادلة أضرّت مصر كثيراً، ولعل أهم مراحل الإضرار كانت في منتصف خمسينيات القرن الماضي، حينما قادت مصر دوراً للتحرر من الاستعمار من كل أفريقيا، وسعت بريطانيا إلى أن يكون الاستقلال السوداني منقوصاً، بمعنى أن يقتصر على شمال السودان فقط من دون جنوبه الذي كان من المطلوب أن يستمر تحت ولاية النائب العام البريطاني، وهو المشروع الذي أسقطته مصر ليحصل السودان على استقلال على كامل التراب الوطني وقتذاك.

ولكن المحاولات البريطانية لم تتوقف، حيث سعت إلى أن تكون النخبة الحاكمة في شمال السودان موالية للندن، وخصوصا أن الحركة الوطنية السودانية الساعية للاستقلال بعد عام 1936 قد انقسمت حول سؤال: “ما هي طبيعة العلاقة مع مصر؟”، فانحاز قسم منها لمصر، وهم الختمية. وانحاز آخرون لبريطانيا، وهم الأنصار. ولكل من الفريقين حزب سياسي كبير عابر للاستقلال السوداني، وما زال فاعلاً في الحياة السياسية السودانية.

علي أية حال، كانت الأوراق البريطانية المتاحة ضد مصر هي ورقتا المياه والعنصرية، وقد استخدمت بريطانيا هاتين الورقتين بذكاء منقطع النظير. تروي الوثائق البريطانية المفرج عنها عن تدشين مشروع المناقل بالسودان، وذلك باستزراع ثمانمئة ألف فدان اعتماداً على مياه النيل لتحصل مصانع لانكشاير البريطانية على 49.2 في المئة من إنتاج القطن السوداني في الفترة من 1954- 1957، بأسعار متدنية مقارنة بالأسعارالعالمية، كما صنعت السفارة البريطانية خلطة شعبوية ناجحة لصناعة كراهية للسودانيين ضد مصر باختلاق إشاعات لها طابع عنصري، ومنها تسريب حوار مختلق فحواه أن مسؤولاً مصرياً قد عاير نظيره السوداني بأن بشرته لن تتحول إلى لون آخر لو حصل على مزيد من المياه، أو تخويف الجنوبيين من المصريين بمقولات أنهم قادمون إلى الجنوب لزراعة مساحات للأرز الذي يأكله المصريون بدلا عن الذرة السودانية.

هذه الأساطير البريطانية لم تنتهِ من المجال العام السوداني رغم مرور السنين، فالواقع أنه إعادة إنتاج لها بصور متنوعة، كلما برزت الحاجة إليها لتلبي حاجات نظم حكم أحياناً، أو حتى قوى سياسية.

دور العامل الخارجي

العامل الخارجي في العلاقات المصرية السودانية غالباً ما يكون مؤثراً في توتير العلاقات بين البلدين، فما قامت به بريطانيا سابقاً تقوم به إثيوبيا حالياً عبر صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي تكتب بالعربية، عنوانها المعلن هو التعريف بإثيوبيا، بينما تحليل مضمون منشوراتها يشير إلى هدفها بشكل واضح، فمثلا تعيد طرح محطات أزمات العلاقات المصرية السودانية كحلايب وشلاتين، وتتجاهل الخلاف الحدودي الإثيوبي السوداني، كما تطرح المخاوف من التحركات المصرية الإقليمية، خصوصاً في القرن الأفريقي وحوض النيل، وتتعامل مع العلاقات المصرية الإرتيرية بنوع من العداء، وبطبيعة الحال تعلي من التقارب العرقي بين السودان وإثيوبيا، بينما تخفي عوامل التقارب الثقافي بين مصر والسودان. وبطبيعة الحال تبدو كل هذه المحاور بعيدة تماماً عن التعريف بإثيوبيا للعرب.

العوامل المصرية

يمكن القول إن ثمة عوامل مصرية تساعد على توتر العلاقات بين القاهرة والخرطوم، سببها الرئيس على المستوى الرسمي أن القاهرة تتفاعل بالمعطيات المصرية كدولة مركزية في دولتي السودان، فمثلا هي تحبّذ وتدعم الأدوار المركزية للدولة كمؤسسات، على حساب الأدوار السياسية للأحزاب السياسية والنقابات وأجسام المجتمع المدني كافة، على اعتبار أن هذه الكيانات غير فاعلة في مصر، على خلفية التضييق الحكومي عليها، وهذا الموقف المصري ممتد من الجمهورية الأولى على عهد جمال عبد الناصر حتى الآن.

من هنا صاغت القاهرة موقفها من الثورة السودانية المندلعة في ديسمبر (كانون الأول) 2019، مراقباً في المرحلة الأولى، ثم داعماً للجيش السوداني بعد خلع البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، ثم معزولاً في الأطر السيادية فقط حتى الوقت الراهن، ولعل هذا ما يفسّر الموقف العدواني من شباب لجان المقاومة في الأحياء وخطاباتهم المعادية لمصر، خوفاً من أن تمارس الأخيرة دوراً ضد المكون المدني السوداني في المعادلة السياسية، متناسيين أن أطرافاً إقليمية أخرى تلعب هذا الدور حالياً بدرجة أعلى، وأن المكون المدني نفسه لا يقوم بأدواره على المستوى المأمول واللائق بالثورة السودانية.

أما العامل الثقافي فهو المرتبط بتراجع العملية التعليمية في مصر من حيث المحتوى، كنتيجة لتسلل بعض المعطيات الثقافية لجماعة “الإخوان المسلمين”، التي ترفض الآخر على المستويات الدينية والعرقية، وكذلك تمركز مصر حول ذاتها الثقافية والتاريخية من ناحية أخرى، فضلاً عن حفاظ معدلات الأميّة على مستواها في مصر، وعدم وجود جهود فعالة لاستئصالها، من هنا ظهرت بعض الخطابات العنصرية في قطاع المهمشين  المصريين ضد السودانيين في مصر على مستوى التعامل اليومي، وهو الأمر الذي تعاملت معه القيادة السياسية المصرية باحترافية، حينما دعت مراهقاً سودانياً تم التنمر عليه من نظرائه المصريين ليكون إلى جانب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي  في مؤتمر للشباب في رسالة كانت موجهة للمصريين أكثر منها للسودانيين.

أما على المستوى الإعلامي المصري، فإن هناك جهلاً يكاد يكون عاماً بالمفردات المطلوبة إعلامياً للتعامل مع المصالح الخارجية المصرية، فضلاً عن ممارسة نوع من العنصرية أو التحريض أو السخرية، وكلها أدوات مدمرة للعلاقات بين الشعبين الشقيقين، ويكون لها انعكاسات على الرأي العام السوداني بشكل سلبي.

العوامل السودانية

على مدى التاريخ السوداني الحديث، لعبت الأنظمة السودانية دوراً في تصعيد التوتر ضد مصر، إما استجابة لانحيازات طائفية، أو للقفز على مشكلات داخلية، مثل قرار حزب الأمة تسليم السلطة إلى عبد الله خليل عام 1958 على خلفية الخلافات مع مصر، وكذلك موقف السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء السوداني الأسبق، من إلغاء معاهدة التكامل مع مصر بعد ثورة 1985 ضد نميري.

وبطبيعة الحال كان لنظام الجبهة القومية الإسلامية الذي حكم السودان في الفترة 1989- 2019 القدح المعلى، ذلك أن قيادة الترابي لمظاهرات ضد مصر إبان حرب الخليج الأولى مهدداً بقطع النيل عنها، ثم شروع الجبهة في تأميم المدارس والجامعة المصرية على خلفية العداء للموقف المصري المتحالف مع الخليج ضد صدام حسين، ثم عدم نجاح السودان في تقويض نظام مبارك سعياً للتمهيد لسيادة الإسلاميين في مصر، وهو المشهد الذي انتهى بمحاولة اغتيال مبارك نفسه في إثيوبيا عام 1995، وترتب عليه قيام الترابي بأدوار في تقويض أي تقارب مصري سوداني بعد هذه الأزمة.

ومع تفاقم الأزمة الداخلية لنظام البشير كانت مصر إحدى الأوراق الجاهزة للاستعمال بتوظيف ورقة الخلاف الحدودي، وهي الورقة التي يتم تلقفها إعلامياً على الجانبين المصري والسوداني، فكل ساعٍ وراء شهرة يستخدم هذه الورقة في معالجاته المقروءة أو المتلفزة أو على وسائل التواصل الاجتماعي، وإذا كانت هذه المعالجات خاضعة لمحددات المكونات العاطفية بين الشعبين في خلال الفترات الماضية، فإن هذه المحددات قد اندثرت نسبياً، خصوصاً بعد الثورة السودانية التي ما زالت تنتج حالات من السيولة، وربما ذلك ما يجعل الفرص سانحة لاضطلاع قطاعات من الصف الثاني والثالث من الجبهة القومية الإسلامية بخطابات إعلامية تحضّ على كراهية مصر، بحسبان أن أي تقارب مصري سوداني على المستوى الاقتصادي في هذه المرحلة، يمكن أن يسهم في تقوية حكومة الثورة، ويرفع وزنها السياسي في مقابل النظام البائد.

ما العمل؟

في ظني أنه على قوى “الحرية والتغيير” أن تتفاعل مع المستجدات وتحدّد موقفاً استراتيجياً من العلاقة مع مصر، فمقاطعة مصر إلى حد عدم تسمية سفير سوداني في القاهرة بعد ما يقارب من عام من خلع البشير هو تقصير هائل في حق الدولة السودانية، وفي طبيعة صورتها الدبلوماسية الإقليمية، كما أن الاستمرار في الخوف من الموقف المصري على اعتبار أنه وازن في دعم المكون العسكري أظن أنه غير واقعي لسببين، أن المكون العسكري نفسه لديه أزمة داخلية هائلة، خصوصاً مع انخراط أحد مكوناته في حروب مرتزقة، في وقت يعاني فيه مكونه الرسمي من أزمات الضغوط من قوى الهامش ومطالب إعادة الهيكلة على المستويين الأيدلوجي والعرقي، أما المسألة الثانية فهو الموقف الغربي الرافض لمسألة دفع العناصر العسكرية إلى واجهة الحكم السوداني.

من هنا من المطلوب على الصعيد السوداني الانتباه إلى توعية الشباب المنخرطين في الأحزاب ولجان المقاومة في الأحياء إلى أمرين، دور النظام البائد في تصعيد التوتر مع مصر وطبيعة مصالحه في ذلك، وكذلك طبيعة الفوائد الاقتصادية المترتبة على تعاون تنموي واقتصادي مع القاهرة.

أما على الصعيد المصري، فإن تفعيل قانون العقوبات ضد المنفلتين بخطابات عنصرية إعلامية بات مطلوبا بإلحاح في هذه المرحلة، وكذلك رفع مستوى الأداء الإعلامي في ملف العلاقات الخارجية المصرية، من شأنه أن يفقد الصائدين في المياه العكرة أي محتوى مصري لاستخدامه ضد السودان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.