هل هناك غناء هابط؟
كتب: جعفر عباس
.
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن الغناء الهابط، دون ان يشرح لنا فاعل خير متى يكون الغناء هابطا او صاعدا، وفي تقديري فإن البعض يحكم على أغنية ما بالهبوط والانحطاط في ضوء مفرداتها فقط، في حين ان الشعر الغنائي وليد مجتمعه والقول بأن هناك غناء هابطا يجعل من المستمعين اليه “هابطين”، ولا شك في ان المجتمع السوداني عانى من اختلالات رهيبة في القيم والسلوك العام خلال العشرين سنة الماضية، فصار التغني علنا بأن “راجل المرة حلو حلاة”، بعد ان صار الشلب (اختطاف بنت لرجل متزوج) ممارسة شبه عادية، ففي ظل الضائقة الاقتصادية بارت السلع ولم يعد في مقدور الشباب الزواج، وعانت البنات من البوار أكثر من معاناة الشباب الذكور، لأن البنت عندنا تخاطب ب” يا فتا(ة)” منذ ان تبلغ ال16 لتذكيرها بأنها غير متزوجة حتى صارت الكلمة ضربا من الشتيمة والمعايرة، فكانت الصرخة: مليت مليت يا اب شرا/ مليت من قعاد البيت يا اب شرا/ بالضرا، بالضرا انشاءالله راجل مره.
ولكن المعيب والمشين هو ان مطربين رجالا يرددون كلمات تأتي على لسان بنت: واي واي خلاني براي، أو “بقيف الدرب/ عشان اجيب مغترب/ ….. الجلابية بيضا مكوية/ يا حبيبي بسحروك ليا”.
وحقيقة الأمر هي أن فن الغناء عموما أصيب بعاهات كثيرة في السنوات الأخيرة من حيث اللحن والكلمات، بعد ان صار الغناء وسيلة سهلة لكسب المال، فصارت الأغنية تسلق وتأتي “نص استواء” لأن السوق مزدحم بالمطربين والمطربات الذين صاروا يكسبون في شهر واحد ما لا يكسبه جراح مخ واعصاب في خمس سنوات، وما أن يصيح أحدهم: يا بهية آآآآيا/ اللحم دا آآآآآآآآآآآآيا/ والشحم دا آآآآآآآآآيه، حتى يعلو الهجيج والضجيج.
ونتغنى جميعا بزمن جميل افتراضي كان فيه كل شيء زاهيا، وكان فيه الغناء “راقيا”، وصحيح ان المغنين كانوا قبل سنوات ليست بعيدة يختارون من الشعر أجمله، ويعكف المطربون والملحنون شهورا طويلا لتحويل بعض ذلك الشعر الى غناء عناصره مكتملة وما ان يصل غناؤهم الى الجمهور حتى يتلقفه الناس ويحفظه ويردده بينما أغنيات وقتنا الحاضر رغوة وزبد يختفي من الوجدان والذاكرة بانصراف المطرب او المطربة.
ولكنني ضد القسوة على المطربين الشباب، فمن يصفهم بالهبوط يصف من يستمعون اليهم أيضا بالهبوط؛ وإذا كان مقياس الهبوط هو أنها تتضمن عبارات يرى البعض انه لا يجوز ترديدها علنا، فما قولك في شعر الزمن الجميل المزعوم: موفور النفل ساح نام في الكفل/ اسفل مرة ويعلا المرة الكان سفل/… من تقل المرجرج الخايض الوحل، والذي يعلو ويهبط هو الكفل الذي هي “الأرداف” وكأنما تلك البنت تمشي في حوض من الطين، فهذه صورة شعرية محكمة ولكن تخيل لو جاء هذا الكلام على لسان مطرب شاب في هذه الأيام!! ومن منا لم يسمع عشرات المرات: كدا كدا يا التريلا، والتريلا كما نعرف هي الجزء الخلفي الملحق بالمحرك (القندران) والمراد بها هنا عجيزة المرأة (ردفها) ويرددها صغارنا من غير فهم نقلا عن كبارنا، وتخيل لو تغنى طه سليمان او عاصم البنا بأغنية سيد خليفة: يا سقاة الكأس من عهد الرشيد.. شفة عطشى وأخرى/ هي كأس خمرها نار وجمرة/ ليتني لو ذقتها في العمر مرة، وهي مسجلة في الإذاعة والتلفزيون وتمت إجازتها نصا ولحنا باعتبار ان الشعر فيه الكثير من الغزل الحسي، بل ان اشعار المتصوفة فيها الكثير من التغزل بالنساء والخمر كرموز للحسن، وكانت للمطرب صلاح احمد عيسى أغنية ذائعة الانتشار تقول: هات كأسي هاتها ملآنة خمرا تبعث النشوي وتملأ النفس سكرا.
الغناء والرسم والشعر وجميع ضروب الابداع نتاج مجتمعها، ولا يستقيم الظل والعود أعوج.