هل هي بحث مخلص عن سلام دائم؟ أم سعي محموم وراء المغانم؟
كتب: د. الباقر العفيف
(٣)
“إن ما خرجت تبحث عنه تركته وراءك في بسطام”
(الشيخ أبا يزيد البسطامي)”
المنبر التفاوضي الثاني
مقدمة الجزء الثالث من المقال
ناقشنا في الجزء الثاني من المقال علاقة التَّحكُّم والهيمنة التي وسمت تعامل الطبقة الحاكمة مع أهل الهامش. كذلك بيَّننا كيف أن الدولة الدينية، أو بالأحرى تطبيق الشريعة الإسلامية، لم يجيء عن طريق اختيار شعبي واعي، أو عبر عملية ديمقراطية تعكس تعبيرا حقيقيا عن رغبة شعبية. وإنما جاءت مفروضة فرضا بأوامر حكام طغاة رأوا في الدين رأسمال رمزي تتحقق باستثماره رغائبهم في حيازة الدنيا، والخلود في كرسي الحكم. فأتوا بقوانين مُحَاكة بسرعة فائقة كما تُحاك ملابس العيد يوم الوقفة، كما عبَّر الدكتور منصور خالد. فهي إذن مولود غير شرعي وُلد سفاحا من أبٍ مُجرِم حقيرٍ، هو المُكرٍ السياسي، وأم ساذجة سهلة الإغواء، هي عاطفة شعب مُجَهَّل مقهور ومحب للدين.
الهوية والحرب
ظلت قضية الهوية مرتبطة بقضية الحرب ارتباط السبب بالنتيجة. سبق أن ذكرنا أن الإصرار على بناء الدولة السودانية وفق الهوية العربية الإسلامية، وبالذات في تجلِّيها الأكبر المتمثل في إقامة دولة الشريعة، يمثل الجذر الأعمق لشجرة نسب الحروب الأهلية في السودان. ولذلك إذا أردنا القضاء على أسباب الحروب الأهلية نهائيا، لابد من الغوص عميقا لمواجهة تلكم الجذور، وحل مسألة الهوية، هوية البلد ودستورها وقوانينها، بما يحقق المساواة لجميع المواطنين، والعدل بين كل القوميات. وهذا لن يتحقق بغير الدولة العلمانية الديمقراطية. هذه هي الحقيقة البسيطة البديهية، وهذا هو السبيل الصحيح لتمتين وحدة البلاد. وما سواه إلا شرذمة البلاد.
وقد واجه السياسيون الشماليون هذا السؤال المفصلي بحصاد قليل من المعرفة والفهم. وبانعدام تام للمهارة القيادية والجسارة الفكرية. لذلك لم نَرَ منهم سوى الإنكار والتَّهرُّب والتَّدْليس والمراوغة. ظلت هذه هي السمة العامة للسياسيين الشماليين وعدد مقدر من مُثقَّفي البلاد في التعامل مع قضايا الحرب والسلام. وهو ما وصفه الدكتور منصور خالد “بالنفاق الفكري” في مواجهة القضايا المبدئية. فهم من ناحية يعترفون بأن السودان متعدد الثقافات ومن الناحية الأخرى لا يريدون لهذه التَّعدُّدية أن تنعكس على هُويَّة البلاد فتُصبح بدورها هوية متعدِّدة الأبعاد. ولذلك لا يعدو اعترافهم على أن يكون “حلاة لسان وقلة إحسان” أو lip-service.
قلنا إن مقاربة سياسيي الشمال لهذا السؤال المفصلي اتَّسمت بالمداورة والمناورة والهروب إلى الأمام. أو “بالشطارة” كما وصفهم الدكتور منصور خالد، وشرحها بأنها “الدَّهاء الذي يصحبه خُبث”. فعلوا ذلك في فترات تاريخية تُمَثِّل مُفترقات طُرق عَبر تاريخنا الحديث، بدءً من مؤتمر جوبا عام ١٩٤٧، الذي وجب أن نُسمّيه عام الرشوة بالوظائف، الأمر الذي أصبح سمة ثابتة لتعامل المركز مع الهامش. مرورا بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان أواخر عام ١٩٥٥، عام الخديعة الأولى، المتمثلة بوعد السياسيين الشماليين لنظرائهم الجنوبيين “بالنظر بعين الاعتبار لتبني النظام الفدرالي في جنوب السودان” إذا صَوَّتُوا معهم لإعلان الاستقلال. ذلك الوعد الذي بُذِل بسخاء من ينوي الحنث به. فلما صَوَّتوا معهم تَنَكَّر السياسيون للوعد في مداولات لجنة الدستور عام ١٩٥٨. فذاك عام النُّكُوص العلني عن وعدها الذي قطعته للجنوبيين عام ١٩٥٥. وكذلك مرورا بمؤتمر المائدة المستديرة ١٩٦٥، الذي أجمعت فيه جميع الأحزاب الشمالية المشاركة فيه على رفض الفيدرالية. إلى أن حل علينا عام ١٩٦٨ الذي ساقت فيه جبهة الميثاق الإسلامي الحزبين الكبيرين من خطامهما للسير في طريق التمزُّق الوطني تحت دعاوى الدستور الإسلامي ومحاربة الشيوعية والإلحاد. ولقد لخص الدكتور منصور خالد تلك الفترة في هذا النص الجامع:
“لا نغالي إن قلنا بأن معالجة الأحزاب لقضية الدستور الذي هو أعلى رمز للوفاق الوطني قد اتسمت بقدر كبير من الاستهانة. فقضية الدين لم تُحّسَم إلا بالصورة التي أرادتها قلة نشطة استخدمت العاطفة الدينية الصادقة عند جمهرة المسلمين في الشمال لاستجاشة العواطف دون تَدَبُّر لما تقود إليه هذه الإثارة. وقضية الإقليمية حُسِمَت وفق رؤى الحاكمين من أهل الشمال لأن كل من عداهم من أهل السودان قد اُعتُبِر داعية للنعرات العنصرية كان اسمه وليام، أو غبوش، أو دريج، أو باكاش. أما تمثيل القوى الحديثة فقد حُسِمَت هي الأخرى بإلغاء دوائر الخريجين لأنها “تتنافى مع الديمقراطية”… وبين هذا وذاك أُدِينَت الشيوعية وأُدِين الإلحاد دستوريا. وكلا الشيوعي والملحد ضميرٌ مُستَتَرٌ وُجوبا تفسيره هو من تريد الأحزاب الحاكمة إعدامه سياسيا، أو بالأحرى من يريد الأخوان المسلمون أن يلحقوا به تلك التهمة الغليظة”.
الاعتراف بالاختلاف
حَسَمت الأحزاب الشمالية الرئيسية موضوع الجنوب بالإجماع على رفض الفيدرالية في مؤتمر المائدة المستديرة عام ١٩٦٥، وأبعدت الجنوبيين. وفي نفس العام هَزَمتْ الجبهة الوطنية حكومة جبهة الهيئات وأجبرتها على الاستقالة، وأقامت الانتخابات المُبَكرة التي حملتها لكراسي الحكم. ونجحت في إقصاء الشيوعيين وطرد نوابهم من البرلمان. وكذلك نجحت في تكفير الجمهوريين وأبْلَسَتْهِم. بعد ذلك انهَمَكَتْ في تصميم الدستور الإسلامي وإجازته عبر الجمعية التأسيسية بهدف إقامة دكتاتوريتها المدنية الدينية. في هذه اللحظات جاءت مايو ١٩٦٩ وقلبت عليهم الطاولة.
إعلان ٩ يونيو ١٩٦٩
أعلن قادة الانقلاب بعد أيام من قيامه بيان التاسع من يونيو الذي “يعترف” ولأول مرة في تاريخ السودان “بالخصائص الثقافية لأهل الجنوب” ويَعْتَرِف بحقِّهِم في حكم ذاتي يُديرون به أمرهم ويُطَوِّرون “ثقافاتهم”. غَنِي عن القول إن هذا الإعلان لا يُعبِّر عن مجرى السياسة الرئيسي، وإنما يُشَكِّل وجهة نظر الأقلية ممثلة في الحزب الشيوعي تحديدا. فهو الذي أعدَّ بيان التاسع من يونيو ١٩٦٩ الذي اعترف بالخصائص الثقافية للجنوب. وقد تأسَّسَت عليه اتفاقية أديس أبابا للسلام مع حركة الأنانيا عام ١٩٧٢، والحكم الذاتي في الجنوب. وبطبيعة الحال ما كان لهذه الرؤية أن ترى النور لولا رافعة نظام مايو في نسخته اليسارية الأولى. ولابد من ذكر وجهة نظر أقلية أخرى يمثلها الحزب الجمهوري. وهو أول حزب يشَخٍّص الحرب في الجنوب باعتبارها مشكلة حكم في الخرطوم. وأول من دعا للحكم الفدرالي كآلية لإدارة التنوع في البلاد.
فهل تعلمون لماذا كان التيار السياسي الرئيسي في الحزبين الطائفيين ومعهما الحركة الإسلامية يرفض الاعتراف بخصائص الجنوب الثقافية؟ لأنها لم تكن ترى في الجنوب ثمة ثقافة. كانت تراه فراغا ثقافيا، وصَدَفَة خاوية تنتظر أن تُُمْلَأ بعناصر الهُوِيَّة الثقافية لأهل الشمال. ومن هنا جاءت حملات التعريب والأسلمة لملء ذلك الفراغ الثقافي بالدين الصحيح واللغة الصحيحة. فقياداتنا السياسية إذن كانت ترفض القبول بالجنوب كما هو كائن، وتريده كما يجب أن يكون عليه حاله بعد اكتمال رسالتهم الثقافية فيه، أي أن يصير صورة شائهة spitting image من تصورهم لذاتهم. هذا هو الشرط الذي يؤهل أهل الهامش للدخول في أول عتبات “المواطنة”. كانوا يريدون للجنوب أن يُصبح في حال شبيه بحال دارفور وشرق السودان. لهم إسلام دون إسلام الطبقة الحاكمة، (إسلام مشوب بممارسات فاسدة ولكنه مقبول في المرحلة) ولهم لغة عربية “مكسرة” دون لغتها. وفوق ذلك هم مُستَلَبُون لهذه الطبقة الحاكمة، وفي تطلع دائم ليكونوا مثلها. أما من الناحية السياسية فهم، في نظر الطبقة الحاكمة، قوم طَيِّبُون هادِئُون راضون بأن يُقرِّر المركز مصيرهم. ظنت الطبقة الحاكمة بأن ما كانت تراه من هدوء سياسي في دارفور وشرق السودان إنما هو حالة استكانة دائمة. لم تكن ترى وميض النار المُتُضَرِّم تحت رماد ذلك السكون. أو العاصفة التي كانت تكمن وراء ذلك الهدوء. لم يخطر ببال هؤلاء الحكام أن أهل دارفور والشرق قد يحملون السلاح في وجوههم يوما ما. وهذا ربما يفسر جزئيا رد الفعل العنيف والمنتقم من قِبَل الإنقاذ عندما انفجر التمرَّد في دارفور.
والأسئلة التي تطرح نفسها هي: أليس غريبا ألا يعتبر قادتُنا السياسيون من كل هذه الدروس التاريخية. أليس غريبا أن يسيروا في نفس الطريق الذي يعلمون نهايته المغلقة dead end. هل يُعقل أن يتبعوا ذات الخطوات السابقة ويتوقعون نتائج مختلفة؟ هل يُعقل ألا يقرأوا الكتابة على جدران التاريخ؟
الجنوب القديم يستضيف المباحثات مع الجنوب الجديد
لا أدري من أو ما الذي أوحى لقادة دولة الجنوب أن يتوسطوا بين أطراف النزاع في الدولة الأم؟ هذا ليس تساؤلا استنكاريا، ولا تعجبيا، ولا حتى استفسارا بريئا. إنها دعوة للتأمل فقط Food for thought. ولا بأس في إشراككم فيما اعتمل في رأسي ونفسي. فمنذ الوهلة الأولى بدا الأمر لي طريفا حد التسلية أو amusing كما يُعَبِّر الخواجات. إنه واحد من تلك الأمور التي تَعِجُّ بالدلالات. حالة سوريالية بامتياز. فلو نظرنا إليه بتجريد تام نجده يمثل محاولة من فاقد الشيء أن يُعطيه. وتمثيل رائع لعالم النفاق السياسي. وبالمناسبة فإن مثل هذه المفارقات حدثت في تاريخنا أكتر من مرة. فقد عرض السيد الصادق المهدي وساطته لإنهاء حالة الحرب بين العراق وإيران في فترة رئاسته للوزارة في السودان في النصف الثاني من عقد الثمانينات في القرن الماضي. فعل ذلك في الوقت الذي عجز فيه عن التوصل لاتفاق سلام مع الحركة الشعبية التي كانت تربض في الكرمك وقيسان على بعد ساعات منه بالعربة. أنفق السيد الصادق تسع ساعات يتحدث مع الدكتور قرنق، خرج بعدها ليقول إنه فشل في الوصول للسلام مع الحركة الشعبية لأن قرنق لا يملك قراره، فهو، أي قرنق، “في جيب” مانقستو هايلي ماريام. لذلك فإن السيد الصادق سيتباحث مع الفيل ويترك الظل. بينما الحقيقة تقول إن السبب في فشل المفاوضات هو إصرار السيد الصادق المهدي على الإبقاء على القوانين الإسلامية. وهذا هو نفس السبب الذي حمله على رفض اتفاقية قرنق الميرغني، التي رحب بها الشعب التائق للسلام، بمليونية استقبال الميرغني المشهودة.
أما قمة الكلايماكس climax في هذه المشاهد السوريالية فتمثل في وساطة البشير لتحقيق السلام في الجنوب. وكلنا نذكر تلك الموعظة التاريخية التي ألقاها البشير على رؤوس أطراف النزاع الجنوبي والتي قال فيها “إن الزعيم الحقيقي هو الزعيم الذي يُضحِّي من أجل شعبه. ولا زعامة لأي شخص يُضحِّي بشعبه لأجل تحقيق مصالح أو أهداف شخصية”.
يا سبحان الله. قال ذلك دون أن يطرف له جفن. وأذكر كيف أَلْجَمَتْ الدهشةُ ألْسُنَنا ونحن نرى مُجرما مُنحَطّاً ولِصَّا خامل النفس عديم الروح يتقمص شخصية المهاتما غاندي ونلسون مانديلا ويُلقى موعظته على قادة الصراع الجنوبي الذين ربما شعر بعضهم أنهم جزء من نص روائي لماركيز. يفعل ذلك في حين يَعِجُّ بلده بالحروب القذرة، والفوضى الكاملة، وضياع هيبة الدولة، والقتل المجاني “لأتفه الأسباب” كما قال “بعضمة لسانه”. لم يَتَردَّد البشير في إلقاء موعظته تلك بالرغم من أنه كان مستعدا للتضحية بثلث أو حتى نصف شعبه من أجل مصلحته الشخصية في البقاء في الحكم. وهكذا حُكِم على هذا الشعب أن يضرب كفا بكف ولسان حاله يقول “أفي حلم نحن يا رب أم في علم”.
وبنفس القدر فنحن نرى اليوم التاريخ يُعيد نفسه وهذه دولة الجنوب الغارقة في الحروب الأهلية حتى أذنيها والتي أعجزت وساطة الإيقاد والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة جميعا لتحقيق السلام فيها، والتي تنتظر قرارا من مجلس الأمن لتمديد العقوبات الاقتصادية الانتقائية والحظر على السلاح، والتي تقول التقارير الدولية أن عدد الجنرالات في جيشها يساوي ثلاثة أضعاف عدد الأطباء العاملين في مستشفياتها، والتي تبلغ الأموال التي نهبها أربع جنرالات فقط، هم وزراء دفاعها السابقين، مليارات الدولارات، كافية وحدها لإخراجها من دائرة الفقر والتخلف. هذه الدولة الغارقة في الدم والفساد تتوسط لتحقيق السلام في الدولة الأم. أليس في هذا مدعاة للتأمل؟
رمزية المكان
ومع ذلك، فإذا تجاوزنا عن هذه المفارقات السياسية، فسوف نجد في استضافة جوبا للمفاوضات دلالات ورمزية من نوع آخر. جوبا التي تقف شاهدا، كالنصب التذكاري، على فشل الدولة الأم في إدارة التنوع. ومع ذلك يعجز المفاوضون الحكوميون الذين يفاوضون الحركة الشعبية شمال برئاسة الحلو فَهْم دلالة المكان. يا ترى هل تساءل حميدتي والكباشي وياسر العطا لماذا انفصل الجنوب؟ وكيف أصبح دولة جارة تتوسط لإنهاء الحرب بين الدولة الأم والجنوب الجديد؟ هل يدركون أن جوبا أصبحت عاصمة لدولة جارة بسبب مباشر لإصرارنا على رسالتنا الثقافية لأسلمة الهامش وتعريبه؟ هل انتبهوا إلى أننا نجني حصاد رؤوسنا المسكونة بتطبيق الشريعة الإسلامية وعمل أيدينا التي لم تحمل لأهل الهامش غير القصف والدمار؟ هل يُدرِكون أن انفصال الجنوب إنما هو مسؤولية مباشرة للعقلية التي تظن أن تطبيق الشريعة أهم من وحدة البلاد؟
لقد استدار الزمان كهيئته يوم أن أعلنت دول الإيقاد “إعلان المبادئ في العشرين من مايو لعام ١٩٩٤. والذي نصت مادته (٢.٧) على الآتي: “يجب أن تقوم بالسودان دولة علمانية ديمقراطية تكفل حرية الاعتقاد والعبادة لكل المواطنين السودانيين. يجب فصل الدين عن الدولة. يجوز للدين والأعراف أن تكون أساسا لقوانين الأحوال الشخصية”. كما تنص المادة (٢.١١) على الآتي: “في حالة عدم الاتفاق على المبادئ المشار إليها أعلاه يكون للطرف المعني الخيار في تقرير المصير، بما في ذلك الانفصال، عن طريق الاستفتاء”. وهذا ما قد كان.
مثلث حمدي حالة ذهنية
الدنيا الدوارة كما يقول أهلنا. وهو عين المعنى المراد بقول الخواجات what goes around comes around. وللخواجات قولة أخرى هي “إن الدجاج (مهما سرح بعيدا) فهو دوما يعود للبيت ليحضن بيضه chicken come back home to roost. وأهلنا في البطانة يقولون “البِلِد المِحَنْ لابد يلولي عيالها”. وما أشبه الليلة بالبارحة. فالطبقة الحاكمة الحالية تعيد سيرة أسلافها بحذافيرها. لم تنسى شيئا، ولم تتعلم شيئا. فالتاريخ في حقها يعيد نفسه بصورة طبق الأصل. يقف المفاوض الحكومي اليوم أما السؤال ذاته. ما هو الأهم وحدة السودان أم الشريعة الإسلامية؟ وها هو القائد عبد العزيز الحلو يعيد ذات المطلب المتضمن في إعلان الإيقاد للمبادئ. إما دولة علمانية تفصل الدين عن الدولة ولا تُشَرِّع قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية أو الحق في تقرير المصير عن طريق الاستفتاء. وها هو المفاوض الحكومي يداور ويناور ويراوح مكانه أو يهرب للأمام، للمؤتمر الدستوري. فلماذا يا ترى؟ بالرغم من أن المفاوض من الجانب الحكومي ليس هو غازي صلاح الدين ولا أمين حسن عمر ولا عبد الحي يوسف، إلا أن هذه الشخصيات، أو ما تمثله من طريقة تفكير، إنما تمثل الفيل المتوهِّط في وسط الغرفة the elephant in the room. فبالرغم من أنهم غائبون عن طاولة المفاوضات، إلا أنهم حاضرون بقوة في عقول ونفوس وطريقة تفكير كل من حميدتي والكباشي وياسر العطا. ومثلما انفصل الجنوب القديم في العقول والنفوس والتصورات والوعي قبل أن ينفصل على أرض الواقع، ويغير شكل خريطة السودان، كذلك اليوم ينفصل الجنوب الجديد في العقول والنفوس والوعي والتصورات قبل أن ينفصل على الأرض ويغير شكل الخريطة من جديد. وهكذا نرى أن “مثلث حمدي” في حقيقة الأمر حالة ذهنية وطريقة تفكير.
نواصل