هَلْ هُوَ الزّمن الأخِير للبَشَرية؟
كتب: واسيني الأعرج
.
علامات السنة المقبلة غير مريحة. حروب لم تتوقف، وكوفيد يتلون وكأنه يلعب لعبته القاتلة مع البشرية؟ التطرف الصاعد بشكل جنوني يذكر بجزء من تاريخنا الحديث. نرى الرعب مقبل مثل عواصف المحيطات، ونظن أن ذلك لا يمسنا لكنه يمس الآخرين، التطرف الديني بكل آلته الجهنمية، حتى أصبح آلة تدمير في يد الآخرين. اليمين المتطرف في أوروبا التنوير وحقوق الإنسان، في يد القتلة الجدد. كل شيء يصعد، دون أن يحرك أحد ساكنا أبدا، وكأن الأمر لا يهمه أبدا بعد أن انسحب المثقفون واحتل الساحة صحافيو الزوايا Les Chroniqueurs.
ليست المصلحة المادية هي من يتحكم في كل شيء على أهميتها، لكن محو المختلف ومنعه من العودة لاحتلال التاريخ. التاريخ الحديث ورث أحقادا كثيرة، لابد أن تظل فيها القوة في يد من يصنع التاريخ والجغرافيا اليوم. لم تعد الحرب مجرد حرب طارئة، لكنها تترسخ كل يوم أكثر. لم تكن عملية تدمير كيان الهنود الحمر فقط للذهب، لكن كانت أيضا يقين المسيطر والتعبير عنه، إذ كان لا بد من محو هوياتهم العميقة وإدراجهم في هوية الأقوى.
الأدبيات الدينية والحضارية تبين كم أن العملية استغرقت وقتا طويلا كان من نتائجها إنهاء الحلم البشري في كيان إنساني. لم يكن اكتشاف البارود خيرا على الإنسانية، ولم تكف نوبل لطمس نتائجه، ومنها القنبلة النووية على هيروشيما وناغازاكي وآلاف الضحايا الأبرياء، على الرغم من مكاسب الحداثة العظيمة التي خلفها الاكتشاف، إلا أنه ظل رهين عقل الهيمنة بالمعنى السياسي، أو حتى بالمعنى الرمزي.
عاشت البشرية سلسلة من الصدمات والتحولات، لم تصنع حاضرها فقط، لكنها بينت كم أن البشرية بإمكانها تدمير كل شيء، دون تردد عندما تريد أن تبرز قوة الهيمنة، بما في ذلك قيمها في استعادة الإنسان الحر الذي بشرت به، الذي غيبته الفتوحات الصناعية والإلكترونية الإنسانية، التي شيّأت كل شيء، حتى الحروب الحقيقية أصبحت وكأنها مجرد حروب افتراضية ولعب غريبة، بدل أن تتحول هذه الحروب الافتراضية من خلال الألعاب، إلى رمزية كما في الثقافات القديمة (البدائية) حيث يتحول الرمزي إلى وسيلة لامتصاص الحقيقي، وتحويل الدم الذي ينزف من الإنسان إلى مجرد لون. العكس هو الذي حدث ويحدث اليوم. الطيار الأمريكي أو الأوروبي، الذي يدير في مقصورته الصور التحتية الواجب قصفها، وتحديد مكان الضربة، يبعث بصواريخه وكأنها مجرد لعب تسلية، وربما كان إحساسه هكذا أيضا حسب شهادات الكثير من الطيارين، الذين قصفوا الكثير من المواقع. ونرى في الصورة بالأبيض والأسود، الناس وهم يركضون في كل الاتجاهات وكأنهم لعب إلكترونية تحركها يد أو نظام ما. نرى صور الانفجارات بلا صوت، وأدخنة، وأشلاء متطايرة في الفضاء، والطيار يلعب لا أكثر، وينسى لثوانٍ ودقائق وربما لأيام وشهور أن ما قام به هو تقتيل ناس على الأرض، قد لا يعرفون بالضبط لماذا قتلوا، لأن المعنيين بالمطاردة يكونون قد غادروا المكان، وليسوا مجرد صور سينمائية. البشرية وصلت إلى درجة من ابتذال الموت في شكل لعب، لدرجة أنها لم تعد تأبه بالمقتول، لأننا عندما نرى الصور الحقيقية نكتشف كم أن الإنسان يعمل على تغييب الإنسان كقوة إنسانية، ويحل محلها التدمير. الكثير من الطيارين في حربي الخليج والعراق، عندما كانوا يسألون هل أحسستم بالندم. يجيبون بلا تردد: «كنا نلعب، لنا برامج مخططة أمامنا علينا تنفيذها. نوجه القذائف وفق إحداثيات مسبقة، باتجاه الهدف الدقيق لإصابته.
عاشت البشرية سلسلة من الصدمات والتحولات، لم تصنع حاضرها فقط، لكنها بينت كم أن البشرية بإمكانها تدمير كل شيء، دون تردد عندما تريد أن تبرز قوة الهيمنة، بما في ذلك قيمها في استعادة الإنسان الحر الذي بشرت به، الذي غيبته الفتوحات الصناعية والإلكترونية الإنسانية، التي شيّأت كل شيء.
في النهاية، لا نترك للخصم أي فرصة للهرب». وعن سؤال تفرضه الإجابة الأولى: وهل تعرف خصمك، ربما قصفتَ بيتا آمنا؟ يجيب الطيار: «الإحداثيات ليست من تحديدي ولا من صنعي، لكن قائدي المشرف على العملية كلية، وإذا حدثت ضربات جانبية (ضربات صديقة) لا مسؤولية لي عنها. كل جهة تتحمل مسؤوليتها في العملية، في النهاية علينا تنفيذ العملية بدقة من خلال الشاشة والأزرار التي يجب الضغط عليها في الوقت المناسب». نسمع اليوم ذلك بنوع من اللامبالاة، وكأن الموت لم يعد موتا، والتدمير لم يعد تدميرا. وكل شيء يخضع لمنطق اللعب والتسلية، لأن الميت ليس له من يطالب بدمه وربما كانت العنصرية المتخفية وراء ذلك أفدح، فلا قيمة لإنسان يموت ظلما لأنه في الأصل ليس إنسانا. ويعود الطيار من مهمته، إلى قواعده سالما وفخورا.
في النهاية نعرف اليوم المعادلة العادية: فمن يملك السماء، يملك الأرض. وكأن البشر أصبحوا آلهة من خلال الغطرسة، وأن قوة الله انتقلت إليهم وأصبح بإمكانهم أن يفعلوا ما يشاؤون، دون محاسب أو رقيب. ندرك جيدا اليوم، من خلال ما يقول به الخبراء العسكريون، أن التفوق العسكري يبدأ من امتلاك السماء كليا. كل وسائل الاتصال الحديثة لا تعني في النهاية إلا ذلك، حتى لو ملكت أعظم الأسلحة الفتاكة إذا لم تسيطر كليا على وسائل الاتصال الحديثة من خلال المسابر الفضائية والساتيلات، وكأنك لم تملك شيئا.
ليست المصلحة المادية وحدها هي المتحكم في ذلك، لكن أيضا محو المختلف، لأن هذا المختلف بعد فترة وجيزة تتفتح عيناه ويأتي للمطالبة بحقه في الوجود، وقد يقاوم من أجل تغيير المعادلات الدولية، كل الحروب التي تخاض اليوم ضد العرب وغيرهم هي من هذا القبيل، المنع من امتلاك القدرة على فتح العيون والمقاومة.
كيف وصلت البشرية إلى هذا كله؟
مجموعة لحظات يمكن حصرها في ما يلي، كان لها الأثر البالغ، ربما هناك غيرها لكن هذا التفصيل يضع العرب منذ هزائمهم القاسية في القرن الخامس عشر، في دائرة ليس فقط الضحية لكن أيضا الانتقام منه بعنف شديد. فقد بدأت الإبادات بالهنود الحمر أولا قبل عملية الكلي، وغيرت الذات بذات بديلة لكي يصبح صمتها عن تاريخها أمرا محسوما، ثم جاء التهجير الأندلسي بعنف غير مسبوق، بعد حضارة قاربت التسعة قرون. وأصبح الإسلام الحضاري تهمة حتى بالنسبة للذي ولد وكبر وعاش هناك. لا تكفيه الأرض والاسم، لكن عليه إثبات حقه في البقاء بورقة نقاء الدم، أي لا يوجد في شجرته أي مسلم أو يهودي، وإلا فهو مجبر على عبور البحر باتجاه العدوة الأخرى، حتى لو كان قد تمسح منذ أكثر من قرن وأصبح كاثوليكيا كاملا. البشرية كلما عقدت أمورها أصبح القوي هو من يملي التاريخ ونظامه. اليابانيون الأمريكان، في الحرب العالمية الثانية، بعد قصف بيرل هاربور، لم تكفِهم ولادتهم في أمريكا ولا جنسيتهم. فقد تم تجميعهم بعد أن اعتبروا أعداء. وذاقوا الأمرين في التجمعات التي لم تكن تتوفر فيها أي ظروف صحية ويعدون بالآلاف. من يتحدث اليوم عن تلك الجريمة الجماعية. في ماذا يختلف المترشح للرئاسيات الفرنسية إيريك زمور، الذي يرى في كل مسلم عدوا محتملا حتى ولو ولد وكبر في الأرض الفرنسية وتشبع من ثقافتها؟ ماذا سيفعل بـ5 ملايين مسلم وأكثر هم أبناء الأرض الفرنسية؟ هل سيفعل مع ما فعله الرئيس الأمريكي في الحرب العالمية الثانية؟ من الأمركة إلى المنفى. لن أتحدث عن العبودية التي نقلت أقواما من أراضيهم الأصلية وتم استغلالهم ببشاعة في أمريكا وبريطانيا وهولندا وغيرها؟ ولن نتحدث عن الهولوكوست الذي أصبح القتل فيه منظما بسبب ديني، اليهودية أو بسبب عرقي بالنسبة للغجر. القتل أصبح سيستم ملازما للقوة، ولفرض البدائل المعادية لجوهر الإنسان نفسه. العودة إلى هذه اللحظات الفاصلة في مسارات البشرية تبين بشكل دقيق المآلات التي وصلت إليها البشرية، وهي مآلات مخيفة وقد تؤدي بنا إلى حروب غير مأمونة تأكل فيها البشرية التي راكمت من التدمير والدم ما يكفي، حتى إنه لم تعد الحرب إلا لعبة. السؤال الكبير: هل تعي البشرية، مع السنة الجديدة، ومخاطر الفيروسات الداهمة والحروب المجانية، أن مصائرها متعلقة ضرورة بالسلام والسلام وحده؟