وبنفلع بالحجارة

0 71

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

نبهت في كلمة مضت للفتح الذي جاءت به لينا حبيب الله في مقاربة هويتها كعربية سوداء، أي خلاسية (hybrid). والفتح ماثل في أنها نهلت في هذا النظر من دراسات ما بعد الاستعمار التي وطنت الخلاسي في مفهومها للهوية والثقافة بعد تشرده طويلاً لأوشاب خلطته. وهو تشرد تناصرت على إحداثه نظريات سبقت كان ديدنها صفاء العرق والثقافة والهوية. فالخلايط ندها لا يوجد. ولي نظرات قديمة في الأمر هاك منها: 

حين جئت الولايات المتحدة للمرة الثانية في 1991 كانت الدوائر الأكاديمية مشغولة بكتاب للأنثربولوجي جيمس كلفورد اسمه “عازرة الثقافة”. ونحن ننطقها “عاضرة” في العامية. ووجدتها ترجمة لائقة للكلمة الإنجليزية ” predicament “. وهو كتاب رد الاعتبار للخلاسي. والخلاسي هو الخليط سواء في الآدمي، أو في الظواهر الثقافية، أو الاجتماعية وغيرها. فلم يكن للخلاسي حتى عهد قريب نظرية تأويه. فالنظرية الثقافية قد خُلِقَت لمن خَلُصت أصولهم واستنظفوها من الاتساخ بخلطة الأعراق الأخري. صافي يا حليب.
وقد راق لي كتاب كلفورد لأنني كنت فرغت لتوي من نقض نظرية كل من ماكمايكل، السكرتير الإداري بالإدارة البريطانية في السودان وصاحب كتاب “العرب في السودان”، والقس ترمنجهام صاحب كتاب “الإسلام في السودان” عن هوية السودان الشمالي. فكلاهما يرانا نحن السودانيين الشماليين سفاحيين وسّخنا بياض العرب وكدنا نجعل من الإسلام وثنية أخرى. وأفكار مكمايكل وترمنقهام هي تقريباً كل زاد الباحثين عندنا في مسألة الهوية بما في ذلك “مدرسة الغابة والصحراء” كما أوضحت في مقال لي عام 1988 ومنشور في كتابي “الثقافة والديمقراطية”.
كان كتاب كليفورد ذروة مباحث شتى تنامت لرد الاعتبار للخلاسي. بل روجت هذه المباحث إلى أن الخلاسية هي الحالة التي عليها العالم. أما الصفاء فهو وهم ساكت كما نقول. وأكثر ما أعجبني قول كليفورد أن “المنتوجات التي تظن الصفاء بنفسها أخذت تفلع بالحجارة”. ولم يبالغ الرجل. فأنظر إلى علم العنصرية في الجنوب الأمريكي وقانون “ال 8%” الذي يكون به الآدمي إما “أسود أو أبيض” في قول عادل إمام. فمن كان في دمه أكثر من هذه النسبة من دم الزنج عدوه منهم ولو طالت عمامته. ومن نقص كان من البيض ولو ترك النباح. وهذا هراء البياض.
والنازية من أفضح ضروب جنون أهل الصفاء. وعنها حدث ولا حرج. فقد ارتكبت النازية الهولكست (المحرقة أو الجنوسايد) بحق اليهود والروما (الحلب أو الغجر بمصطلح مُستَحقِر فيهم) في مشروعها لحجب العرق الآري النبيل من التلوث بالأجناس الوضيعة. بل استخدموا اليوجنك (وهو علم هندسة الوراثة العنصرية) ليزيلوا من الجنس الآري السيد نفسه الأفراد والأسر المصابة بجينات تورث التعويق وضآلة الذكاء. فليس مأذوناً في الجنس السيد أن يكون بعض أعضائه قاصري ذكاء.
وفي الإسلام والعرب رحمة. فالمسلم ملزم شرعاً بنسبة ابنه مما ملكت إيمانه إليه. وهذا ما سماه الدكتور علي المزروعي ب”الحراك إلى أعلى”. فالإبن من السوداء يخرج من زمرة أهله ويصبح من البيضان. (الكاتب لايري أهمية لذلك ولكنها حقائق الأشياء). وسيدفع هذا الهجين ثمناً لذلك بالطبع كما رأينا ذلك عند عنترة ابن شداد.
وشَرعُ بيضان العرب بخلاف ما عليه بيضان الغرب. فالحراك عندهم إلى أسفل. ولذا تجد بين بيضان الغرب جماعات بحالها ما يزال الرق قاسمها المشترك الأعظم. لأن الأب الأبيض لا يمد جناح الرحمة ليشمل بأبوته ابنه من خليلة سوداء. أما العربي المسلم فهو يفرط في بياضه متى تزوج من غير قومه. ووجدت أن طلابي من الأمريكان يتأملون هذه الواقعة الثقافية العربية الإسلامية متى عرضت لها في درسنا عن الرق الأفريقي. وبدا لي أنها تخاطب وجعاً من أوجاعهم رسم فيها التاريخ والعرف حداً فاصلاً عصياً ملتهباً بين العرقين السود والأبيض. ولذا قال الدكتور دِبوي، المثقف الأمريكي الأفريقي المميز، إن مسالة البياض والسواد هي قضية الساعة التي نحن فيها. وكان ذلك في منتصف القرن العشرين وما يزال.
وشجعني العلم الذي انتفعت به من كليفورد إلى كتابة مشروع بحث لم تقبل تمويله جهة الاختصاص عنوانه “المنتوجات الهجين تفلع بالحجاره”. وكنت منزعجاً، وما أزال، لمتاعب السوداني الشمالي في خضم هوياته العديدة العاذرة. فهو عندي ضحية مثالية للنظرية الثقافية التي لا ترى فيه سوى هجين وسفاحي. فهو عربي أسود مسلم. وكلها هويات خاسرة في “التاريخ الكبير”. وهذا مصطلح الدكتور عبد الله الطيب ويريد به التاريخ الذي أوربا لحمته وسداه. ويسميه الدكتور حسن الترابي “التاريخ المقروء” لأن غيره متروك مجهول. فالعروبة والسواد والإسلام (اللهم أحينا به وأمتنا عليه) عاذرات في التاريخ الكبير. بل بعضها عاذر حتى في سياقنا المحلي. فالسوداني الشمالي في نظر أفارقة السودان الخلص وعربه العاربة ثمرة مساومة بغيضة انتقصت صفاء العرقين الأسود والأبيض معاً. وقد ذكر العقيد قرنق في كلمة أخيرة له أنه كان يؤنس السيد مبروك سليم مبروك زعيم الأسود الحرة الذي يمثل عرب الرشايدة. فقال له سليم إن السودانيين الشماليين ليسوا عرباً فالعرب الحق هم الرشايدة. فقال له قرنق ولكنهم “خوتونا” بعروبتهم. فقال له مبروك: صاح لكنهم ولاد حرام ساكت.
ونواصل في حديث الصفاء والهجنة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.