ود إبراهيم: الوطن العافوه الحلب

0 104
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
كنت عائداً من الحصاحيصا بعد زيارة قصيرة للدكتور محمد عبد العاطي. وعلى مشارف الخرطوم اقترح ابن أخ تكرم بتوفير المواصلات للرحلة أن نغشى، متى بلغنا حي جبرة، دار جنابو ود إبراهيم (العميد محمد إبراهيم عبد لجليل) الذي له مكانة خاصة في نفسه. ورحبت بالفكرة. فلقاء رجل له زيط بين شباب المجاهدين عِلم. علاوة على حمدلة السلامة المتأخرة له وقد خرج من الاعتقال بعد اتهامه بتدبير “محاولة تخريبية” على نظام البشير الذي أخلص له لنحو عقدين لم يتأخر عن نصرته. ولدى اللقاء وجدته أخضر مائلاً للقصر وله حفاوة بالزائر.
وسمعته يذيع بالأمس كلمة بمناسبة يوم فطوره الرمضاني السنوي. لم يتعلم شئياً ولم ينس شيئا. فجاهر بالعداء للحكومة الانتقالية بإعادة اختراع نفسه مُشيًرا للدبابين في ساحات الفداء لا يعصون له أمراً، ويستعذبون الشهادة. فاستنفر في كلمته كتائب “الخنادق والبنادق” لينهضوا ضد الحكومة الانتقالية. فقد صبروا عليها عاماً وهي لا تزداد إلا فسقاً عن الدين. وتابع “سَيرة” غيره في اتهام الحكومة بفتح أبواب الوطن للاستعمار الجديد. ولم يتوخ إيراد بينة واحدة منتظرة من ضابط عظيم متبوع على هذه التهمة النكراء. وكان التوقع من رجل مثله في ذمته 30 ألف شهيد كما قال، واعتقد دائماً أن اتهامه بالانقلاب كان أحبولة من رفاق الطريق، أن يرأف بالخصم ويبرز حيثيات صميمة. فلا أعرف مثل الحرب مدرسة للأناة في القرار والحكمة فيه في مثل قول زهير بن أبي سلمى:
وما الحرب الا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة وتُضِر إذا ضريتموها فتَضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم الشؤم
ثفال: ما يوضع من جلد تحت الرحى “المرحاكة” يجتمع فيه ما يسقط منها فلا يختلط بالتراب.
كشاف: أن تُلقح النعجة في السنة مرتين.
وكانت تلك حرب الصف ذات الضحايا القبليين القليلين ناهيك عن حرب يلقى ود إبراهيم بالدبابين فيها فتقول هل من مزيد. فأسرف في القتل إسرافاً لم يغنه شئياً في خاتمة المطاف. فعركتنا حرب ود إبراهيم بثفالها فذهب مبكياً عليه شباب في الريعان لم يتنسم عطراً للحياة بعد. وأُرملت أسر لا يكترث ود إبراهيم لمعاشها بعد أن رتب لمعاد بذورها. فلم أجده بجانبي، وأنا القشيري المسنوح، أدعو الحكومة الانتقالية لتأذن لمنظمة الشهيد مواصلة رعاية أسر الضحايا الشباب للحرب الأهلية في الجنوب، بعد ضم أسر شهداء ثورة ديسمبر لسجلاتها، والتأكد أنها ستحسن للجميع.
واستغربت لحديث ود إبراهيم عن الوطن الذي سيغزوه الاستعمار الجديد بعد طلب الحكومة الانتقالية من الأمم المتحدة بعثة بالفصل السادس من قانونها لعونها في استرداد الوطن. فلم يخالطه مثقال ذرة من شك وهو “يتنبر” بالوطن أنه كان هو نفسه استعماراً جديداً في نظر من استنفر شباب الإسلاميين وغيرهم لقتالهم في الجنوب. فلن تسلم من صفة الاستعمار الجديد والقديم متى استنكرت بالسيف (وبغير السيف) مواطنة أي من شركائك في الوطن. ولا أدري أين كان ضمير ود إبراهيم المثقل بالوطن اليوم والمخلوع يطلب في أصيل حكمه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “بسط الحماية على السودان الذي قال إنه مُهَدد من أمريكا التي تريد أن تمزقه. وهي دعوة شملت عروضاً بالسماح ببناء قواعد عسكرية روسية في البلاد” كما جاء في كلمة للدكتور عبد الوهاب الأفندي. الأمم المتحدة تشيف روسيا بوتين ما تشيف.
يحتج فلول الإنقاذ بالوطن في معارضة دعوة الحكومة للأمم المتحدة. وهذا تمحل وتصنع. فقد تشابه عليهم بقر الوطن والنظام المباد. فالوطن كان هو الغائب الأعظم خلال الثلاثين عاماً من عمر الإنقاذ ليحل محله نظام إيديولوجي معسم. ولم تنجح كل محاولات كل المشفقين على الوطن لحمل النظام ليتحلى بالشجاعة فيرد للسودانيين الوطن حتى الساعة الخامسة وعشرين من حياته. وكانت حوارات وثبته، التي زعم أنها للوطنية السودانية، شراكاً ماكرة لجر طائفة أخرى منا بعيداً عن الوطن قريباً من النظام.
وجَلَب النظام الوطن في سوق النخاسة الدولية والإقليمية حتى عافته. وسقط النظام لأنه استهان بالوطن استهانة فقد بها هو كل مصداقية في ذلك السوق. وذكرتني كلمة “عافته” هذه مثلاً للرباطاب في منطقة عتمور هو “حمارك العافوه الحلب”. فقيل إن رجلاً منهم ظل يعرض حماره على تجار الحمير من بين الحلب. وكان حماره على حال من القماءة كبير. ولم يقبل أي من أولئك التجار شراءه لأنه لن يسير في السوق. فجاء ذكره مرة على لسان صاحبه. فقيل له:” حمارك العافوه الحلب”. وعافت حلب العرب والغرب السودان الوطن من فرط ابتذال نظام الإنقاذ له. وكان أعظم فرح السودانيين بالثورة هو شميمهم عطر الوطن لأول مرة منذ عقود.
وكلمة لود إبراهيم، متى أقدم على فعل ما أذاعه من “محاولة تخريبية” ضد الحكومة الانتقالية، وقِبض ألا يسأل إن كانوا قبضوا على غازي العتباني أو أي أحد آخر. أكل نارك براك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.