٧٥ عاماً على الحزب الشيوعي: وكان عبد الخالق محجوب على الضفة الأخرى من النهر
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
تمر اليوم الذكرى الخامسة والسبعون لتأسيس الحزب الشيوعي السوداني بتكوين نواته الأولى وهي الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) بزعامة الدكتور عبد الوهاب زين العابدين من ورث الشوق الوطني من والده زين العابدين عبد التام من مناضلي حركة ١٩٢٤. واليوم والشهر والسنة للذكرى من تقويم الحزب الشيوعي. ورغبت أن أعرف كيف تواثق الحزب على هذا التاريخ دون غيره مما جاء في تحقيق للدكتور محمد نوري الأمين في رسالته الشماء للدكتوراة عن تاريخ الحزب الشيوعي الباكر. وكان نوري استمع للمؤسسين لحستو ورجّح أكثرهم نهايات ١٩٤٥ تاريخاً لتأسيس منظمتهم. ولا نريد لهذه المسألة أن تشغلنا هنا.
شهدت حديقة المقرن بالخرطوم ميلاد حركتين سياسيتين ثوريتيين في ١٩٤٥ في مد الحمية-الجذرية الوطنية التي أخذت بأفئدة السودانيين في بحر سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها. وجوهر هذه الحمية دعوة للاتجاه للجماهير لتحرير الوطن من الاستعمار وكفانا مفاوضات حولها بين الأحزاب ومؤتمر الخريجين (وقد صار حزباً اتحادياً) في الغرف المغلقة. وكانت الحركتان هما الحزب الجمهوري بزعامة الأستاذ محمد محمد طه وحستو.
تكون الحزب الجمهوري في اجتماع انعقد بحديقة المقرن بالخرطوم تحت الشجرة التي تظلل المسطبة عند المدخل الشرقي. واجتمع لغرض تأسيس الحزب في ذلك اليوم محمود محمد طه، إبراهيم المغربي، محمود الأزهري، احمد محمد خير، إسماعيل محمد بخيت، عبد القادر المرضي، وحسن طه. وأعقبت هذه الجلسة جلسات أخرى لمناقشة البرنامج ثم الانتخابات. ولست أملك إلا ملاحظة أن أحمد محمد خير صار في ما بعد في حستو وقائداً في الحزب الشيوعي.
وقام الحزب الجمهوري يقدح شرراً سياسياً لتعبئة الجماهير في دور السينما والمقاهي ضد الاستعمار. وحدثني الشاعر الحبيب محمد المهدي المجذوب عن أيامه في الحزب يعتلي مناضد المقاهي ومنصات شاشات السينما لتحريض الناس على الاستعمار. ومن حسن الطالع أن سجل ذلك كله عبد القادر المرضي، أمين الحزب، في مخطوطة تنتظر النشر. وبلغ من فدائية الجمهوريين أن رفض محمود دفع كفالة مالية ما ليتفادي السجن. وقَبِل بالسجن راضياً لأجل كسر هيبة المستعمر في عيون الناس ليدخلوا في الجهاد أفواجا. وهذا تاريخ غطى عليه تاريخ الحزب التربوي لاحقاً سوى إشارات ناقدة وضالة لثورة رفاعة (١٩٤٦) التي وقعت في سياق حمية الحزب السياسية.
وكانت حديقة المقرن هي نفسها التي انعقد فيها الاجتماع التأسيسي للحلقة الماركسية الأولي في نهاية ١٩٤٥: حستو. ومن حسن الطالع أن محمد نوري الأمين وفر لنا محضراً لذلك الاجتماع على لسان من شهده وهو عبد الرحيم كدودة. وكدودة من بلدة عبري بأرض المحس. قصد مصر للدراسة في الأزهر وصار فيها اشتراكياً منتمياً لجماعة الخبز والحرية وهي خلاف الحركة الديمقراطية الوطنية (حددتو) التي انتمى لها كثير من الطلاب السودانيين وفيهم أستاذنا عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي من ١٩٤٩ إلى ١٩٧١. وفصل الأزهر كدودة لنشاطه السياسي. فعاد للسودان بأمر الأمن السياسي المصري. ولبى الدعوة للانضمام إلى حستو بينما لم يزل بين أهله في بلدة عبري بالشمالية. قال:
فشلت مساعي عودتي لمصر لمواصلة تعليمي. فقررت بذل كل طاقتي لنشر الاشتراكية بين أهلي في عبري عن طريق لجنة مؤتمر الخريجين الفرعية التي ترأسها أبوه القاضي الشرعي. وزارني، وأنا ما أزال بعبري في ١٩٤٥، قريبي عبد الرحيم أحمد مبعوثاً من عبد الوهاب زين العابدين، مؤسس حستو وسكرتيرها التنظيمي، لإقناعي بالقدوم للخرطوم لأشارك في تكوين منظمة شيوعية. وكنت أعرف عبد الوهاب منذ أيامي في مصر. وقدمت للخرطوم بنهاية ١٩٤٥ والتقيت بعبد الوهاب وآخرين.
تحادثنا طويلاً حول الاشتراكية وضرورة قيام منظمة اشتراكية. وانعقد اجتماعنا للغرض في حديقة المقرن وحضره أحمد زين العابدين، وحسن محمد الأمين، وعبد الماجد أبو حسبو، وهربرت ستوري من صف ضباط الجيش الإنجليزي المحتل. ولما كان ستوري بصدد مغادرة السودان فقد كان حريصاً أن يلتقي بأكبر عدد من الاشتراكيين السودانيين ليطمئن على قيام الحزب الاشتراكي قبل سفره.
وانزعجت لوجود بريطاني بيننا. ولم اتمالك من القول للمجتمعين إن الاشتراكية ضد الإمبراطورية البريطانية فكيف لبريطاني مثله مساعدتنا في القضاء على إمبراطوريته. وترجموا له كلمتي بناء على رغبته، فضحك. وقال إني على حق أن أنزعج لوجوده بيننا. فقد مر به نفس الموقف مع اشتراكيين هنود وجدوا حرجاً من وجود بريطاني بينهم يزعم مساعدتهم في بناء الاشتراكية. ولم يجدوا سبيلاً للتصالح مع ذلك الحرج. ومضى قائلاً إن الاضطهاد واقع على الجماهير في كل مكان وكذلك الاستغلال. وعليه وجب علينا إنشاء حلقة سرية ثورية متلائمة مع ظروف السودان يجتمع فيها كل الثوريين السودانيين. واتفق معه عبد الوهاب في الرأي أنه حان الأوان علينا كثوريين لتنظيم حركة ثورية بصورة غاية في الفدائية والسداد. وتحمس بعض من في الاجماع مما قيل وطالبوا أن يقوموا لوهلتهم بطبع المنشورات وتوزيعها.
وكانت أهم قرارات الاجتماع كما يلي:
١-وجوب تقوية الحزب (الذي انوجد منذ بداية ١٩٤٥).
٢-الإصرار أن يتكون الحزب من عناصر نقية يكون الانتماء إليه خاضعاً لشروط معينة. وأن تكون اهتمامات وعلم وعزائم المجندين لهم رصيداً للحركة. كما عليهم مراعاة الحذر وغاية السرية لتأمين الحزب، وأن يكون للعضو صلاحية الترويج لفكرة الحزب وبناء الحزب طالما لم ينحرف عن خطه.
٣-وأن يهدف الحزب ل:
أ-تحرير الجماهير وعونها للاطلاع على الفكر الحديث بما يتفق مع إملاءات القضية الوطنية.
ب-التركيز مبدئياً على الاستعمار والتحرر الوطني بأبعادهما الثقافية والاقتصادية والسياسية.
من باب الصدفة العجيبة أنه ربما كان أستاذنا عبد الخالق محجوب، الذي صار سكرتيراً للحزب الشيوعي في ١٩٤٩، على الضفة الأخرى من النهر يوم انعقاد ذلك الاجتماع صبياً في آخر المرحلة الثانوية بين لداته في إحدى مجالس سمرهم.
ونواصل