⭕في الذكرى السنوية الأولى لتوقيع إتفاق جوبا لسلام السودان:
قراءة حول الإتفاق والموقف من تنفيذه. (1 من 3)
كتب: محمد حسن عثمان التعايشي
.
يصادف فاتحة هذا الشهر أكتوبر 2021م، الذكرى السنوية الأولى لتوقيع إتفاق جوبا لسلام السودان، في الواقع هناك أكثر من سبب يجعلني أهتم بالكتابة والتدوين حول المضامين التي إشتمل عليها الإتفاق وتسجيل بعض الملاحظات حول الطريقة التي يتم التعامل بها في تنفيذه والصعوبات السياسية والفنية والمالية التي تواجه التنفيذ، ثم تقديم بعض المقترحات حول كيفية إنزال بنود الإتفاق إلى الأرض، وإكمال بقية ملفات وقضايا الحرب والسلام مع الفصائل التي لم يشملها إتفاق جوبا المُوقع في 3 أكتوبر 2020م.
▪️من بين العديد من الإتفاقات التي وُقعت أثناء الحقبة السياسية الحديثة في السودان، إبتداءً من مؤتمر جوبا (1947م)، إتفاق أديس أبابا لسلام جنوب السودان (1972م)، إتفاق نيفاشا (2005م)، إتفاق أبوجا لسلام دارفور (2006م) وأتفاق أسمرا لشرق السودان (2006م)، ثم إتفاق الدوحة لسلام دارفور (2012م) وأخيرًا إتفاق جوبا لسلام السودان (2020م)، من بين هذه الإتفاقات على كثرتها هنالك ثلاثة ميزات خاصة بإتفاق جوبا أود أن أبينها لأهميهتا من الناحيتين السياسية و التاريخية.
الميزة الأولى: إن إتفاق جوبا لسلام السودان هو الإتفاق الوحيد واليتيم الذي وُقع في ظروف سياسية مختلفة عن الظروف السياسية التي وُقعت فيها إتفاقات السلام السابقة حيث أنه وُقع في ظل حكومة انتقالية مفوضة من ثورة شعبيىة، والتي تمثل واحدة من أهم الثورات في تاريخ السودان الحديث بينما تم توقيع الإتفاقات الأخرى في ظل نُظم شمولية وأحادية الجانب، بل أن إتفاق جوبا هو الإتفاق الوحيد الذي لم يُوقع فقط بسبب الرغبة والإرادة السياسية أو الضغط الدولي إنما هو إلتزام بأهم مطالب وشعارات ثورة ديسمبر (الحرية، السلام والعدالة)، كما هو أيضًا إلتزام دستوري متوافق مع الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية، والتي نصت على أن يكون بند إيقاف الحرب من الأولويات الأساسية التي يجب أن تنفذها حكومة الانتقال خلال الستة أشهر الأولى من عمر الفترة الانتقالية.
الميزة الثانية: إتفاق جوبا لسلام السودان هو الإتفاق الوحيد الذي حاول أن يعالج الإختلالات التاريخية التي تسببت فيها السياسات الخاطئة والمتعمدة في كثير من الأحيان ثم النتائج الكارثية التي نتجت جراء هذه السياسات وفي مقدمتها الحروب الأهلية على الأقل في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، معالجة كل هذه الإختلالات في إتفاق واحد يمكن أن نُطلق عليه (إتفاق الإتفاقات)، أي أنه حاول أن يُعالج الإختلالات التنموية والسياسية والأمنية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وإفرازات الحرب إلتي إمتدت حتي ثورة ديسمبر، ثم المظالم التاريخية التي شهدتها مناطق شرق السودان بولاياته الثلاث (البحر الأحمر، كسلا والقضارف)، ثم معالجة بعض الموضوعات والمطالب العادلة بوسط وشمال السودان كقضايا السدود، البيئة، الآثار، تأهيل المشاريع الزراعية المروية وعلى رأسها مشروع الجزيرة، مجتمعات العمال الزراعيين والمزارعين وقضايا الرُحل والرعاة، عكس الإتفاقات السابقة التي حاولت أن تُجزّء القضايا، فإتفاق نيفاشا عمد على معالجة الإختلالات في جنوب السودان مع بعض المحاولات لمعالجة الإختلالات بالمنطقتين، لذلك كان هو إتفاق جنوب السودان الذي إشتمل على برتكول المنطقتين، على الرغم من موافقة الحركة الشعبية بقيادة الدكتور جون قرنق بمبدأ شمول المفاوضات لكل قوى التجمع الوطني الديمقراطي وهذا كان أحدى شروط القوى المدنية والمسلحة المنضوية تحت لواء التجمع لدعم المفاوضات، إلا ان موقف حكومة المؤتمر الوطني كان الرفض المطلق لمشاركة أي طرف آخر غير الحركة الشعبية، كذلك إتفاقات أبوجا والدوحة التي إتجهت لمعالجة المشاكل بدارفور، وإتفاق أسمرا الذي ناقش مشكلة شرق السودان. أما إتفاق جوبا حاول معالجة كل القضايا الملحة والعالقة في السودان في إتفاق واحد، فأوجد صيغة بروتكول القضايا القومية الذي يشترك عنده جميع السودانيين، ثم عالج قضايا المناطق الأخرى التي تتعلق بالحرب أو التهميش التاريخي حيث أن كل منطقة لديها مشكلة تختلف في الدرجة والنوع وبالتالي طرائق الحل عن الأخرى.
الميزة الثالثة: إتفاق جوبا لسلام السودان شمل كتل سياسية ومجموعات مسلحة مختلفة عكس الإتفاقات السابقة، فإتفاق نيفاشا كان بين الحكومة والحركة الشعبية وإتفاق أبوجا كان بين الحكومة وحركة جيش تحرير السودان قيادة مناوي، وإتفاق أسمرا مع جبهة الشرق السودانية و إتفاق الدوحة مع حركة التحرير والعدالة السودانية، أما إتفاق جوبا فكان بين الحكومة السودانية وأطراف متعددة تمثل طيف سياسي عريض من دارفور والمنطقتين وشرق السودان ومناطق أخرى. لم يكن سهلًا من ناحية نظرية وفنية بناء إتفاق سياسي واحد بمسارات مختلفة وتنظيمات متعددة، فقد عُقدت ورشة في أكتوبر 2019م بأديس أبابا بمبادرة من مكتب المبعوث الأمريكي الخاص للسودان دونالد بوث وبتنظيم وتصميم من “مجموعة القانون الدولي العام والسياسة PILPG” وهي مؤسسة متخصصة في بناء وتصميم السلام والقانون الدولي، هذه الورشة التي أستمرت لمدة أسبوع أسست نظريًا وصممت فنيًا كيفية بناء إتفاق سلام واحد بمسارات متعددة ومع تنظيمات متعددة، يعالج من ناحية سياسية وموضوعية ذات القضايا التي يمكن أن يُعالجها أي إتفاق منفرد أو إتفاقات مجتمعة. وكانت هنالك خيارات عديدة حتى إستقر الرأي على أن يكون خيار تصميم إتفاق الإتفاقات هو الخيار الأكثر مرونة ومعقولية على الأقل لأطراف الجبهة الثورية التي لم تتمكن من تقديم ورقة تفاوضية موحدة إلا في القضايا القومية. ومن ناحية نظرية أستطيع أن أوضح الرسم البياني الفني الذي تم إعتماده لمنهج تصميم إتفاق جوبا لسلام السودان كإتفاق واحد بمسارات متعددة تحكمها مبادئ عامة وفق القانون الدولي العام.
▪️واحدة من أسباب عدم الإستقرار السياسي في السودان منذ الإستقلال هو فشل النخب السياسية السودانية في الموائمة ما بين قضايا الديمقراطية والعدالة والمواطنة المتساوية وإيقاف الحرب، لم يكن في وسع النخب وقتها أن تربط جوهريًا وموضوعيًا بين بناء نظام ديمقراطي مدني في السودان ومعالجة الغبن السياسي والإقتصادي والإجتماعي الذي أوجده المستعمر بسياسات التمييز والمناطق المقفولة الذي سار عليه النظام السياسي الوطني بعد الإستقلال، لذلك لم تنجح الحكومات التي أعقبت الثورات المعروفة في السودان في أن تستمر، ومن بين الأسباب الأخرى التي جعلت تلك النظم لم تقوى على الإستمرار والديمومة هو إستمرار الحرب الأهلية وسياسات الطرد المركزي وتراكم الغبن الإجتماعي والإقتصادي الذي ولد حركات إحتجاج واسعة في الريف، هذه الحركات لم يكن مهمًا لها التمييز بين طبيعة النُظم التي تحكم من الخرطوم ديمقراطية كانت أم شمولية، لذلك لم يستقر النظام السياسي.
إتفاق جوبا هو محاولة جادة لمعالجة ذلك الخلل الذي لازم التجربة السياسية، وأعتقد أن ثورة ديسمبر نفسها إشتملت على مضامين جديدة ومبادئ لا تخطئها العين في الربط بين الديمقراطية وتحقيق السلام، لأول مرة في الحركة السياسية تُرفع شعارات تربط عضويًا ما بين الحرية والسلام والعدالة، ليس هذا وحسب بل أن الوثيقة الدستورية وهي ترجمة للإتفاق السياسي وتُمثل دستور الفترة الانتقالية حددت القضايا الجوهرية التي يجب أن تلتزم بها مفاوضات السلام القادمة، منها خصوصية المناطق المتأثرة بالحرب، الترتيبات الأمنية ومعالجة الإختلالات في المنظومة العسكرية في السودان، العودة الطوعية، الحلول المستدامة لقضايا النازحين واللاجئين، قضايا التهميش والفئات الضعيفة، المواطنة المتساوية، نظام الحكم والعلاقة بين المركز والولايات، الأرض والحواكير، العدالة الانتقالية، المساءلة وإنصاف الضحايا، عدالة توزيع السلطة والثروة، التنمية المستدامة والوضع الإداري للمناطق والأقاليم المتأثرة بالحروب، هذه القضايا الملزمة لحكومة الفترة الانتقالية والوفد الحكومي المفاوض جعلت من ملف السلام ملف أساسي مرتبط بالانتقال الديمقراطي والنظام المدني في السودان، وهذه نقلة سياسية كبرى للحركة السياسية الوطنية في السودان.
بالنظر إلى القضايا التي ناقشها إتفاق جوبا للسلام نجد أن هنالك خمسة قضايا جوهرية عالجها الإتفاق بطريقة جديدة وعلمية وموضوعية اذا ما طُبقت كما تم الإتفاق عليها سوف ترسم ملامح الدولة الوطنية الجديدة في السودان وتزيل التشوهات التي إتسمت بها الدولة الوطنية القديمة (دولة ما بعد الإستقلال) .
1. الترتيبات الأمنية.
2. قسمة الموارد والتفاوت التنموي.
3. نظام الحكم.
4. المواطنة المتساوية.
4.العدالة والعدالة الانتقالية.
في الأجزاء التالية سوف اتطرق لكل قضية بالتفصيل من حيث المعالجات التي تمت والآليات التي تم إقرارها لإنفاذ المعالجات والموقف من التنفيذ وما يتوجب علينا فعله.