الحزام أداة للحزم

0 56
كتب: جعفر عباس
.
عملت مدرسا لعدة سنوات في مدارس بنات ثانوية في السودان، وكانت كلها باستثناء واحدة، مدارس تتسم بانضباط طالباتها وجديتهن واحترام النظم ومراعاة قواعد السلوك القويم، وكانت تلك المدرسة التي استثنيتها، خاصة/أهلية، ومن النوع الذي يعامل الطالبة التي يسدد أهلها المصروفات الدراسية أولاً بأول كطالبة متميزة حتى لو كانت غير منتظمة في الحضور إلى المدرسة أو لا تهتم بدروسها أو مظهرها وكانت غالبية بنات تلك المدرسة من الأسر الغنية القادرة على دفع أي مبلغ تطلبه المدرسة، وكانت قلة بسيطة منهن تعتبر المدرسة مكانا للترفيه والقرقرة واللقلقة. يعني معظمهن كن بنات طيبات وراغبات في الدراسة.. وبالطبع ففي كل صندوق تفاح هناك تفاحة أو أكثر معطوبة، وكانت في تلك المدرسة نحو ثلاث تفاحات معطوبة وكن مصدر إزعاج للمدرسين وزميلاتهن. وكنت لهن بالمرصاد ليس لأنني أكثر المدرسين تشددا وحرصا على النظام، ولكن لأنني كنت أكثرهم شجاعة! كيف؟ بقية المدرسين كانوا يتقاضون رواتبهم من المدرسة، أما أنا فقد كنت معارا إليها من وزارة التربية، ولم أكن “سائل” في مديرة المدرسة أو وكيلتها اللتين كانتا تدللان كل بنت غنية حتى لو استبدلت الزي المدرسي بملابس شعبولية. وفي كثير من المدارس الخاصة فإن المدرس أو المدرسة بلا كلمة ولا سلطة، وعليه أن يصمت على كثير من التجاوزات كي لا يفقد وظيفته! أما أنا فقد كنت أتعمد استفزاز مديرة المدرسة والتحرش بها (ليس بطريقة كلينتون) بمعنى أن أتعمد الاصطدام بها في كل ما يتعلق بنظريتها القائلة “من يدفع ينفع”.
ذات يوم وعقب انتهاء اليوم الدراسي خرجت إلى الشارع لأسمع عويلا وصراخا، ووجدت طالبتين من فئة التفاح المعطوب في مشاجرة مع فتاة أخرى. كانت معركة استخدمت فيها الأسنان والأظافر مما تسبب في تمزق الملابس وانكشاف العورات، ووجدت رجلين من المارة يحاولان التفريق بين المتشاجرات، فطلبت منهما التراجع، وخلعت حزام بنطلوني ومارست الحقد الطبقي بأن انهلت ضربا على التفاحتين حتى صاحتا “الروب”، وفي السودان فإن من ينطق بكلمة الروب في مشاجرة يعتبر مستسلما.. وتوقفت المشاجرة وأمرتهن بدخول مبنى المدرسة ثم كتبت ورقة لولي أمر كل منهن بأن ابنته لن تستأنف الدراسة ما لم يأت هو شخصيا لكتابة تعهد بأنها ستكون حسنة السيرة والسلوك.. وبكل وقاحة قلت لمديرة المدرسة إنني سأبلغ الوزارة بما حصل إذا حاولت “لفلفة” القضية لأن التفاحتين من أسرتين غنيتين! فعلت ذلك وفي ذاكرتي سوداني “شيخ عرب” اسمه منصور على فتين التقيت به في القاهرة قبل سنوات بعيدة وبينما هو يصعد سلم عمارة، كانت هناك بنتان سودانيتان تضحكان بخلاعة وتتمايلان في غنج على الدرجات، فما كان من منصور إلا أن انهال عليهما ضربا بعصا خيزران كان يحملها حتى صاحتا الروب وهربتا من البناية وجميع من حوله من المصريين يصفقون له.
عاد هذا الشريط إلى ذاكرتي عندما قرأت عن مشاجرة بين سيدتين في إربد بالأردن أدت إلى إغلاق شارع رئيسي لأن المارة امتنعوا عن التدخل لفض المشاجرة تفاديا لملامسة المتشاجرتين.. لو كنت هناك لما لمست أيا منهما بيدي، بل بالحزام أو الجزمة، فهكذا يتصرف القرويون. ولست عنيفا باليد او اللسان ولكنني أؤمن بأن الحزام أداة حزم فعالة في بعض المواقف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.