نظرية «الإحلال الكبير» العنصرية
كتب: واسيني الأعرج
.
الإحْلال Le remplacement، أو نظرية الإحلال، تعني في معناها الأوليّ البسيط، أن يحتل شعب بثقافته وتقاليده وأسراره، مكان شعب آخر يعيش معه، كان في وقت من الأوقات هو صاحب الشأن فأصبح تابعاً للشعب الذي أطعمه من جوع وآمنه من خوف، بسبب التسارع الديمغرافي المهول والنوايا الإحلالية المخفية، التي لا تظهر في العلن إلا عندما يتم استجماع كل القوى (حسب هذه الفرضية) ويحدث الانقلاب النهائي، فتجد أوروبا الديمقراطية (؟) نفسها محتلة من العرب والمسلمين وغيرهم من القوميات التي تقع في قاع سلم ترتب القوميات كما خطها العنصريون. مع أن هذه النظرية تصطدم بسهولة بكذبها. عندما نعرف النسب والإحصاءات وما يشكله المسلمون بمختلف قومياتهم، عددياً في أوروبا، ندرك كم أن الفكر الغربي الاستعماري تحديداً، في مراحل انهياره الكلي؛ فقد أصبح يرى العدو في كل مكان، حتى في مواطنيه الذين نزع عنهم حق المواطنة واعتبرهم غرباء ومهاجرين، حتى ولو كانوا من الجيل الخامس، ومنغرسين داخل الهوية الفرنسية ونسقها الحياتي. هذا يدل على شيء واحد، هو الانهيار الكلي في القيم وأخلاق الأخوة والتضامن، وإخفاق الحداثة التي فشلت في أن تجعل من خياراتها الإنسانية والحضارية شيئاً مثبتاً في الوجدان الأوروبي والإنساني.
بدأت فكرة الإحْلاَل مجرد فكرة، سياسية في جوهرها، بشر بها الكاتب الفرنسي رونو كامو Renaud Camus، في كتابه الذي لا يخلو من عنصرية، إذ إن فكرته بنيت على عنصر شديد الخطورة، وهو التهجير والترحيل أو ما يسميه بالهجرة العكسية. يعني إرجاع كل الأجانب (المسلمون عموماً، والعرب بالخصوص) إلى بلدانهم الأصلية. من هنا، فمصطلح الهجرة لا يمس إلا فئات معينة دون غيرها، لأنها متهمة بتدبير مؤامرة حضارية مبنية على الانقلاب العرقي والجنسي، أي الإحْلاَل. النظرية لا تمس الهجرة الأوروبية الإيطالية الكبيرة، ولا هجرات أوروبا الشرقية، ولا حتى الهجرات الآسيوية التي اتسعت في السنوات الأخيرة، وتحتل مواقع كبيرة في الاقتصاد الأوروبي. وهذه النظرية التي تفترض عنصراً متفوقاً ومالكاً للثقافة الإنسانية النموذجية لا تختلف كثيراً عن فكرة الجنس الآري المتفوق، التي بنت النازية عليها مشروعها التدميري، بل تنْحت جوهرها أيضاً من أطروحات سامويل هنتغتون حول صدام الحضارات التي ترى في المسلم خطراً مهدداً للكيانات الحضارية المتطورة. المسألة ليست أكثر من مسألة وقت. فعندما تصبح السلطة في أيدي الغرباء، سينهار كل شيء. مع أن تأملاً بسيطاً يبين هزال هذه النظرية التي تجد صداها لدى الفئات الشعبية، ضحية الفكر الشعبوي والإعلام الاستهلاكي، كالقنوات المرتبطة عضوياً بهذه الحركات العنصرية مثل CNEWS التي صنعت إيريك زمور، وسهلت عملية نقل «خطر» الإحلاليين إلى البيوت البسيطة، بغلاف أيديولوجي يبدو حيادياً في شكله ووطنياً، لكن لا حيادية فيه مطلقاً، ويعمل على إشاعة «نظرية الإحلال» التي أصبحت حديثاً عادياً على الرغم من عنصريته المقيتة. قناه سي نيوز CNews التي يقف وراءها إمبراطور كبير اسمه فانسون بولوري، الذي يملك أكبر الشركات الاقتصادية مثل فيفندي، وأكبر المؤسسات الإعلامية Canal+, CNEWS, C8, Europe1, Paris Match, JDD, إضافة إلى العديد من دور النشر. الاستبانات المختلفة تضع قناته «سي نيوز» على رأس القنوات الفرنسية الأكثر مشاهدة. لم يعد المثقف هو الذي يصنع الرأي العام، ولكن أباطرة القنوات التي أنجبت عتاة المغالين الذين ينبّهون ليل نهار إلى مخاطر الإحلال القريب.
لنتساءل: كم من وزير دفاع من أصول مغاربية، عربية أو إسلامية، في المؤسسة الفرنسية؟ كم من مترشح للرئاسيات له امتدادات عربية أو إسلامية؟ كم من إطار مسلم أو عربي يحتل منصباً إدارياً عالياً؟ كم من وزير عين في منصب كبير؟ هناك فيلتر وشبكة ضيقة الأعين موجودة على كل المستويات، لا تمرر إلا ما تريده خارج فعل الكفاءة والقدرات العقلية. على العكس من العقلية الأنجلوساكسونية التي أوصلت إلى السدة رئيس بلدية من أصول غير أوروبية، أو تلك التي قادت في أمريكا الجنوبية رجلاً من أصول لبنانية مثل كارلوس منعم، إلى رئاسة الأرجنتين. يبدو هذا المشهد مستحيلاً في البلدان الأوروبية.
ما هو محتوى نظرية الإحلال الكبيرة le grand remplacement التي أشاعها لأول مرة في 2010 رونو في كتابه «ألف باء البراءة»، قبل أن ينقلها من مجرد فكرة عنصرية إلى نظرية قائمة بذاتها: «الإحلال الكبير». الفكرة العنصرية هذه ليست جديدة في فرنسا، فقد سبقه إليها، في القرن التاسع عشر، موريس باريس. في مقالة نشرها في «الجورنال» في 1900، بذور هذه التصورات. يقول: «اليوم انزلق في مجتمعنا فرنسيون ليست لنا القدرة على استيعابهم، ويريدون أن يفرضوا علينا طريقتهم في الحياة». «انخفاض الولادات، واستنزاف طاقتنا منذ مائة عام، عوامل حاسمة. فقد تمّ اجتياح أراضينا ودمنا من طرف عناصر خارجية تهدف إلى تركيع مواطنينا. انتصار طريقتهم (الغرباء) ونظرتهم للحياة، ستؤدي إلى هلاك حقيقي لوطننا». في ماذا يختلف عن مرشح الرئاسيات اليوم إيريك زمور؟ فالنظرية عنصرية، في عمقها، مبنية أصلاً على كراهية الآخر الأجنبي المختلف في اللون والدين والإثنية، حتى لو كانت أصوله الأولى قد فقدت العلامات المرجعية سيفضحه الاسم، وهو ما تفاداه اليهود في فترات معاداة السامية، حيث رخص الحاخامات للناس بتغيير أسمائهم حفاظاً على استمرارهم، وللمرأة بتحليق الشعر وتعويضه بباروكة حتى لا تثير نظرة الآخرين باختلاف هندامها، مع الإبقاء على الخصوصيات الداخلية كما هي والاحتفاظ بها داخل الممارسة العائلية. لا تهم الجنسية إذا كان الشخص فرنسياً منذ عشرات الأجيال. في هذه الحالة، يمكننا أن نطرح السؤال التالي: من أين جاء هؤلاء الإحْلاليون؟ ومن جاء بهم إلى فرنسا مثلاً؟ لا نحتاج إلى جهد كبير لمعرفة الإجابة. المسؤول هو بلد الاستقبال في الفترات الاستعمارية، وكان في حاجة إلى يد عاملة. كل السكك الحديدية، والأبراج، وأنفاق الميترو، بنيت على ظهر هؤلاء الناس المعتبرين إحلاليين. من خاض الحروب العالمية الكبرى وأصبح طعماً للطائرات والمدافع؟ من نهب بلدانهم وحولهم إلى رقيق في الحملات الاستعمارية الكبيرة؟ ما أشبه هذه النظرية بما سنه ملك إسبانيا فيليب الثاني عندما قرر طرد بقايا الأندلسيين من المسلمين واليهود الذين تمسّحوا. في سنة 1609، قرر طرد كل من في سلالته مسلم أو يهودي ولو كان ذلك منذ قرون خلت. لم يكتشف «عباقرة» الإحْلال البارود، لكنهم أعادوا عقارب ساعة الزمن إلى الوراء. هذه النظرية تستعمل للتخويف من الخطر الداهم. وينتهجها اليوم بحذافيرها مرشح الرئاسيات الفرنسية القادمة إيريك زمور، مع أن عدد السكان «الإحلاليين» من المهاجرين من غير الأوروبيين، عبر الأجيال المتعاقبة، لا يتجاوز 10% من مجمل ساكنة فرنسا؟ كيف تحل هذه النسبة الفقيرة مكان تسعين بالمائة؟
بقي أن نقول إن الذين يحضرون للحرب الأهلية ليسوا «الإحلاليين»، بل التيارات المتطرفة العمياء التي بدأت تدخل المجتمع الفرنسي والأوروبي في هيستيريا الخوف من الآخر القادم من وراء البحار. لنا في أحداث نيوزيلندا عبرة، في الاعتداء الدموي المزدوج على مساجد في نيوزلندا الذي خلف 49 ضحية بريئة. الإرهابي برونتون تارونت Brenton Tarrant، 28 سنة، صرح بأنه اعتمد على كتاب «الإحلال الكبير» لرونو كامو. فقد عثر لديه على كتابات تحيل إلى نظرية الإحلال الكبير. في البيان المكون من 74 صفحة، الذي نشره ووزعه عبر الإنترنت، بوقت قصير من انتقاله إلى الفعل الإرهابي، يستعيد في البيان فكرة الاجتياح الأجنبي غير الأوروبي للمجتمع الغربي. هذه واحدة من نتائج «فكرة الإحلال الكبير» التي تتأسس على الضغينة، والتي لن تقود إلا إلى الحرب الأهلية والتقاتل الداخلي. هذه النظريات العنصرية ليست رأياً سياسياً، ولكنها جريمة يعاقب عليها القانون للحفاظ على وحدة النسيج المجتمعي الذي يراد تفكيكه.