الحزب الشيوعي: جاك الموت يا تارك الماركسية (١-٢)

0 88

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

لا أعتقد أن الحزب الشيوعي راغب في المساهمة في حوار اليوم العاقب لنكسة الحكومة الانتقالية بغير الترويج لنفسه كالفرقة الناجية من عثرات قحت. فأنتهز الحزب سانحة معارضته للوثيقة الدستورية وخروجه من قوى الحرية والتغيير ليعرض بثوبه المطهر من آثام قحت علينا، وليكون الخصم عليها والحكم. فسمعت من قال منهم إن انقلاب ٢٥ أكتوبر بمثابة نهاية قحت كقوة سياسية. وبدا لي من تعييبهم للحكومة الانتقالية كأن الإطاحة بها بانقلاب ٢٥ أكتوبر هو جزاؤها الوفاق. وانزعجت جداً لاستقبال الحزب لبابكر فيصل وياسر عرمان قبل يومين أو نحوه اللذين زارا دار الحزب ليطلبا عودة الحزب لحظيرة قحت. وبدا أن الحزب قد ركب حيالهما، وهما من فاشلي قحت، خيلاء عزته السياسية بسداده وطلب منهم أن يأتياه بشيء مكتوب. وأتمنى يكذبني الغطاس.

هل كان رفض الحزب الشيوعي للوثيقة الدستورية، بنت المساومة بين قحت والمجلس العسكري، هو الحق الذي لا يعلى عليه؟ كتبت في حَزَتِها أقول إن ذلك الرفض كان عواراً لحزب شديد الاعتقاد بأنه يطبق الماركسية بصورة خلاقة على واقعنا. وأعيد نشر نقدي للحزب هنا لأنني، بالحق، لا أريد لنقاش اليوم العاقب عن نكستنا هذه أن يتحول إلى تلاوم ولعان وخاصة من طرف يعتقد أنه على المحجة السياسية لا مراء.

 

لا أعرف أن مر بالحزب الشيوعي السوداني يوم كيومه هذا الذي يحاكمه غير ماركسيين بتخليه عن الماركسية في موقفه الأخير ضد الاتفاقين السياسي والدستوري. فقد شخّص كل من السيد الصادق المهدي (بحسب ما علمت) والأستاذين زهير السراج ونضال عبد الوهاب رفض الحزب للاتفاقين كتشدد ثوري نهى عنه لينين في كتابه “مرض الطفولة اليساري” الذي سَوّغ فيه للثوري أن يتنزل عند المساومة متى لم يكن من ذلك بد. فإن شمخ الثوري بأنفه دون المساومة ارتد غراً وكُتب “يسارياً طفولياً”. والعياذ بالله.

حاكم السيد الصادق الحزب الشيوعي من ناحية تجربته السياسية أيضاً. وخطرت هذه المؤاخذ ببالي وأنا أنظر في رفض الحزب للاتفاق السياسي والانسحاب من مائدة التفاوض ضمن قوى الحرية والتغيير ومع المجلس العسكري. والتجربة موضوعنا هنا هي مقاطعتنا دون العالمين لاتفاقية الحكم الذاتي في فبراير 1953. وصارت لنا “نعلة” (لعنة) من مثل “اسكتو! إنتو ما القاطعتو اتفاقية استقلال السودان. تاني عندكم كلام”. ورمتنا تلك المقاطعة في عزلة قاتلة قال الدكتور فاروق محمد إبراهيم إن من صوتوا لصالح خطنا في المقاطعة في اتحاد طلاب جامعة الخرطوم كانوا أقل عدداً من أعضاء رابطة الطلاب الشيوعيين نفسها.

ولا أدري إن كان السيد الصادق عَرَج في كلمته إلى الطريقة السياسية التي تخلصنا بها من ذلك الوزر السياسي. فقامت لجنة الحزب المركزية في مارس 1953 بنقد معارضتنا الاتفاقية. وكان ذلك شارة نضج باكرة للحزب الذي اعتقد، وأغلبه شباب مبهور بتجارب النضال المسلح للتحرير الوطني في الصين وفيتنام، أن دون الاستقلال يراق الدم أو كل الدماء. وكانوا متى أنسوا غنوا:

ستالين قال لن تنالوا الحرية مجاناً

وفي الملايو هناك شالو البندقية

وهوشي (منه ثوري شيوعي عسكري ورئيس دولة الفيتنام) في الفيتنام ما بعرف النيه

 

وحادثة نقد الحزب لمرضه الطفولي حيال اتفاقية 1953 تؤرخ لسهر الحزب الشيوعي تحت قيادة أستاذنا عبد الخالق محجوب للأخذ الدقيق بحقائق الواقع الوطني في بناء خطه السياسي.

وعاد أستاذنا في كتابه “آفاق جديدة” (1956) لهذه الخبرة في عزلتنا القاسية انسياقاً وراء هوانا الثوري. وفيه أرانا كيف فات علينا في تحليل للاتفاقية الواقع المتعين في بلدنا الذي انشطرت فيه حركة التحرر الوطني بين من قبلوا العمل للاستقلال بالتعاون مع الإنجليز ومن رفضوا ذلك البتة. فالأوائل دخلوا في كيانات استشارية وتشريعية قيل إنها لتدريبهم على مسؤوليات الحكم على المدى لطويل. وقاطع الثواني من طلاب الوحدة مع مصر دخول تلك الكيانات مطالبين بالحكم الذاتي المعجل. ونظر أستاذنا في وجوه اختلاف خبرتنا في التحرر الوطني عن خبرات الهند والصين. ونبه إلى غفلتنا عن الديناميكية الخاصة لخبرتنا التي تداخل فيها القبول باستقلال تحت وصاية إنجليزية واستقلال بالمقاومة المدنية من مقاطعة وتظاهرات (قتل فيها شهداء بعطبرة). فلما تجافينا واقعنا ركبنا السهل وهو تقليد غيرنا.

وفي كلمة قادمة ننظر في موقف الحزب الشيوعي من التفاوض في شرطنا الراهن إن شاء الله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.