الحزب الشيوعي: جاك الموت يا تارك الماركسية (٢-٢)

0 80

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

يزعجني من الحزب الشيوعي أنه لا يرغب في المساهمة في التفكر في “كسرة” الانتقالية على يد الثورة المضادة إلا بشروطه وهي أنه الفرقة الناجية. فهو دون غيره من رفع يده عن التفاوض مع العساكر وتجنب الحكومة الانتقالية. وجاء سقوط الحكومة بانقلاب ٢٥ أكتوبر مصداقاً لبعد نظره ومتانة ثوريته. وهو الانقلاب الذي لم ينتظر الحزب للقضاء على الانتقالية كما صمم، بل سبقه إليه. والزعم أنك الفرقة الناجية في مثل النكسة التي وقعت للثورة مفسد للنقاش الواجب في اليوم العاقب للكسرة نحسن العلم بها فنتحصن لنهوض جديد مظفر للثورة. وأواصل الحديث في الذي بدأته أمس.

كان الإغراء كبيراً أن أقول إن الحزب الشيوعي، برفضه الوثيقة الدستورية بين قوى الحرية والتغيير (قحت) والمجلس العسكري في 3 أغسطس (بعد أن سبق له التفاوض حولها)، كحردان السوق الذي قيل إنه لم يولد من يرضيه. ولكن صديقاً على صفحتي في الفيسبوك اقترح تناولاً آخر لمجاز الحزب الشيوعي والسوق. كتب الصديق يقول إن الشيوعي مثل الذي تأتي به للسوق لتستأنس برأيه في شراء شيء ما. وما أن عدتما بالشيء بعد شرائه قال لك: “غشوك خلي بالك”.

لم يكن الحزب على مبدأ التفاوض مع المجلس العسكري أصلاً. فلم يتصالح مع فكرة مشاركة العسكريين على أي مستوى من مستويات الحكم الانتقالي. وقال السيد صديق يوسف في مؤتمرهم الأخير إنهم قبلوا بالتفاوض مع المجلس العسكري مع حلفائهم برغم موقفهم المعارض للانقلاب والتعاطي معه. وجاءت لحظة “غشوكم”. فلما غادروا مائدة التفاوض عابوا على قحت المفاوضة تفريطها في التمسك بقرار الاتحاد الأفريقي (28 الفقرة 5) حول تسليم العسكريين الحكم للمدنيين. وكأن الحزب، الذي قطع أرضاً معلومة في التفاوض مع المجلس العسكري، يقول لقحت إن التفاوض كان من أصله غشاً وقعت ضحية له يوم قبلت بالدخول فيه. وكان هو معها. فلم تكن قحت بحاجة للتفاوض من أصله لأن 28-5 الأفريقية أعطتها السلطة كاملة غير منقوصة وعلى طبق المدنية. ولم يكترث الحزب هنا لحقيقة أن الاتحاد الأفريقي مع ذلك من كان يرعى التفاوض بين قحت والعسكري. وتبرأ الحزب الشيوعي، رفيق طريق قحت في سوق التفاوض، من البضاعة المغشوشة بقوله إن حلفاءنا صاروا جزء من نظام هم، الشيوعيون، ليسوا منه وسيناضلون لتحقيق المواثيق التي بينهم برغمهم.

ولم يخل قول الشيوعي “غشوكم” لقحت بعد العودة من سوق التفاوض من سوء ظن قديم له بأطرافها. فقال الخطيب، السكرتير السياسي، إنه مقتنع منذ بداية الثورة بأنه ستأتي لحظة يتواجه الثوار مع قوى الهبوط الناعم وهي عنده أهل تجمع نداء السودان. وهي تهمة سبقت من الشيوعي لهم لأنهم، حسب رأيه، جنحوا لمهادنة نظام الإنقاذ بإرخاء أذنهم لحوار الوثبة رامين ببصرهم لانتخابات النظام في 2020.

ولأن التفاوض مع المجلس العسكري مما لم يتفق للحزب الشيوعي حتى حين كان جزء من التفاوض تجده، متى تحلل من التفاوض، يأتي بمطالب بعضها مبتكر وبعضها كان مما قبل به خلال رحلته غير القصيرة في التفاوض. فطلب الحزب بعد انسحابه من التفاوض التفكيك العاجل للنظام السابق الذي يخدم الرأسمالية الطفيلية، وحل المليشيات بما فيها الدعم السريع، ومحاكمة البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولم تكن محاكمة البشير أمام المحكمة الجنائية واردة في ثنايا التفاوض. كما ارتد الحزب إلى القول بوجوب أن يكون التحري بيد لجنة تحقيق دولية في حين كان قَبِل باستبدالها بلجنة تحقيق وطنية مستقلة يعين عليها الاتحاد الأفريقي. واستنكر الحزب تأجيل تكوين المجلس التشريعي لثلاثة أشهر بعد قيام الحكومة الانتقالية مع أنه كان تنزل عن ذلك في المفاوضات فيما قال به الأستاذ وجدي صالح.

وهذه ردة من الشيوعيين للبراءة الثورية الأولى. وبها لا يكون المجلس العسكري في نظر الحزب ضغثاً سياسياً (لا حقيقة من حقائق القوى) فحسب، بل يحكم أيضاً على استثمار الجماهير بموكب ٣٠ يوليو، الذي أعاد المجلس العسكري صاغراً للتفاوض، كباطل وقبض ريح. وعليه فعلى الجماهير، في رأي الحزب، أن “تَعِد” الثورة كتلاميذ خابوا في الدور الأول منها. وهذه هي عقلية سميتها “مايو 2″ على حد تصوير العقيد جون قرنق لثورة أبريل 1985. فلم تستوف تلك الثورة شروط العقيد للنجاح لتسنم جنرالات نميري الحكم في حين غاب نميري. وأرى السيد عبد الواحد ينهج نهج قرنق فيصف ثورة ديسمبر بما انتهت إليه ب”الإنقاذ 2”. وليس تصحيح الثورة قاصراً على الثوريين. فقد قرأت بياناً لحزب التحرير الإسلامي ينعى الثورة لأنها لم تبلغ غايتها في تمكين الإسلام في البلد. فقالوا قد مكر الكفار والمستعمرون بها “فأضاعوا تضحيات الشباب ودماءهم هدراً، باتفاق على إعادة تدوير النظام البائد، الذي يقوم على فصل الدين عن الحياة والسياسة بوجوه جديدة وقوالب جديدة قديمة”. الإنقاذ 2.

ولا أعرف وصفاً ذهب بريح ثورة أبريل مثل وصف قرنق لمايو 2. فقد طلب العقيد من التجمع النقابي حصرياً أن يطيح بالعسكريين ليصدقهم أن النميرية الأولى والثانية خرجتا من الحكم معاً. وهكذا لم يمتنع قرنق عن القاء ثقله مع التجمع النقابي ليرجح الميزان لصالح الثورة ضد مجلس سوار الدهب العسكري الانقلابي فحسب، بل واصل الحرب مما استثار العسكرية الرسمية. فتجيشت ولم تجد حرجاً في التحالف بصريح العبارة مع الحركة الإسلامية المعزولة جماهيرياً للدفاع عن “الأرض والعرض”. وبالنتيجة تضاءل التجمع النقابي والحكومة المدنية أمام هذه العسكرة. وكان التجمع علق حظه في الحكم على مجيء قرنق للخرطوم.

لم ترد كلمة الإنقاذ 2 على لسان الحزب الشيوعي. ولكن تعاطيه مع الثورة كانقلاب عسكري جعل منها الإنقاذ 2. فطلب الخطيب أن يصعد الحزب المقاومة الجماهيرية لإزالة السلطة الظالمة الغاشمة التي استولت على الثورة. وهذا قول صريح بأن ثورة ديسمبر هي الإنقاذ 2. ودعا صديق يوسف لإسقاط النظام الانتقالي طالما وُجد فيه المجلس العسكري. و”تطفل” العسكريين على ثورة إبريل ١٩٨٥هو الذي خول لقرنق ليصفها بأنها مايو ٢.

لا أعرف إن كانت تجدي مناشدات الكثيرين للحزب أن يعود عن موقفه عن التفاوض لينخرط في ترتيبات الحكم الانتقالي، أي أن يقبل بالبضاعة التي كان طرفاً في شرائها في سوق السياسة. فمما قد يحول دون ذلك أن الحزب قد أعد نفسه كما رأينا لمعارضة الحكومة القادمة طالما وُجِد العسكر بها. ولا نذيع سراً إن قلنا إن العسكريين سيكونون فيها لثلاث سنوات قادمة كما في الوثيقة الدستورية. وقبضتهم عصيبة. وستكون عودة الحزب المرجوة عسيرة برغم تلويحه بأنه بانتظار الاطلاع على نص الوثيقة الدستورية ليدلي بدلو فيها مع أن رأيه فيها معروف ومعلن.

عودة الحزب لمكانه الشاغر في قحت رهين بنقد ذاتي منه للارتباك الذي وصم تكتيكاته في التفاوض. فزواج بين التفاوض والترفع عنه مزاوجة أربكت حلفاءه والحادبين عليه. ولن تعوزه القدوة في الشجاعة على مكره النقد ومنشطه في تاريخه. فلم يمر شهر من رفض الشيوعيين لاتفاقية الحكم الذاتي في فبراير 1953 رفضاً اعتزلهم به الناس حتى رجعت اللجنة المركزية للحزب في مارس 1953 عن موقفها المعارض للاتفاقية فتداركت وحشة ضربت أطنابها حول حزبها كما مر أمس. وخرج الحزب بدروس غاية في الخطر حول التطبيق الخلاق للماركسية وردت في كتابيّ أستاذنا عبد الخالق محجوب “آفاق جديدة” (دار عزة 2004) و”لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي” (1960 و1987) نعود لهما.

فهل سيقدم الحزب على نقد نفسه على ذلك الارتباك الذي وصم تكتيكاته في التفاوض؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.