من يخاف الإدارة الأهلية
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(كان أول نشره في ١٦ ديسمبر ١٩٨٨ بجريدة الخرطوم)
قرأت بعض تاريخ السودان في آداب جامعة الخرطوم على استاذنا المغفور له صالح محمد نور. وكان صالح لماحاً له خطرات. وكان يتوقف عند الرواية ليسأل سؤالاً يبدو لسامعه بأن لا مناسبة له. وهذه خدعة صالح.كي يرسل خاطرته على سجيتها.
أنا مدين لصالح بالطريقة التي أقرأ بها الصحيفة السودانية. فأنا أقرأ بتدقيق شديد كل إعلان نعي منشور فيها. قال لنا صالح ذات مرة إن تلك الإعلانات هي أفضل مرجع لطالب التاريخ لأنها تكشف له الأسر وأنسبائها وأصهارها ومساراتها المعيشية وولاءاتها الدينية والسياسية.وعلى أن النعي حزن وعرفان جليلان إلا أنه كذلك وثيقة من الدرجة الأولى للمشغول بالتاريخ وعلم الاجتماع.
على إعجابي بكمياء الجدل، واعتناقي النسخة الماركسية منه، إلا أن صالحاً (الذي لم تكن تروقه الماركسية) هو الذي فتح عيوني على براح الجدل وذكائه. كان يدرسنا يوماً عن خكمدارية غردون باشا الثانية على السودان ( ١٨٤٤ ). وكانت مهمته فيها القضاء على ثورة المهدي. واكتشف غردون مبكراً أن تلك مهمة مستحيلة لملابسات أنه أجنبي ومسيحي. فأرسل يستأذن الحكومة الإنجليزية لتبعث له بالزبير باشا المحبوس في مصر ليجعله حاكماً على السودان. وقد قدر غردون أن الزبير وحده القادر على مواجهة المهدي لأنه وطني مسلم وله مكانة معروفة قائمة على نفوذ قبلي.
بعد أن أدلى صالح بهذه المعلومات تساءل إن كان بمقدور الزبير باشا أن ينقذ النظام التركي ويقضي على المهدية. وكان هذا تمريناً ذهنياً فوق قدراتنا. وتدخل صالح ليقول بأن مهمة الزبير باشا الوطني لن تكون أقل استحالة من مهمة غردون. فقد تغير حال السودان منذ ذهاب الزبير إلى مصر. وأكثر هذه التغييرات مما جاءت به الثورة المهدية نفسها. فقد شارك في هذا التغيير وذاق طعمه جفاة الأعراب ودراويش الخلاوي الفرسان وقادة القبائل المهضومة. وهم لن يقفوا بالتغيير الناشب بالمهدية دون بلوغ السلطة. فلقد تغيرت التركيبة القيادية في المجتمع وتخطت رمز الزبير باشا إلى رمز المهدي.
يقول مبدأ مثير في الجدل إنك لن تستطيع أن تقطع نفس النهر مرتين. والسبب هو أن الماء متدافع متغير في حين أن فكرة النهر ذاتها ثابتة. ولذا ربما كانت فشلت خطة غردون في استخدام الزبير باشا ليقطع به النهر مرتين.
تتوارد عليّ هذه الخواطر القديمة عن دكتور صالح وأنا اسمع الساسة عندنا يردون الاعتبار والسلطة للإدارة الأهلية لمواجهة النهب المسلح والنزاع القبلي أو التمرد. وكل هذه النشاطات وجوه منابتها اقتصادية اجتماعية ثقافية عميقة وتجديدات جذرية في تركيبة السلطة في المجتمع. والحال هذه فلربما كانت الإدارة الأهلية هي أول ضحايا هذه التجديدات والتغييرات.
هل تصلح الإدارة الأهلية الآن في ريف السودان في زمن القادة من ذوي الأصول المغمورة الذين تصدر عنهم في أرياف السودان قرارات في خطر التسليخ والتدريب والهجوم ومصادرة الأموال والقتل؟
لقد قطعت بنا الإدارة الأهلية نهر الريف السوداني الخامد، أو الذي أخمده الاستعمار. فهل بإمكاننا أن نقطع بها ذلك النهر ثانية وقد هاج وماج وأرغى وأزبد؟
اسئلة في بداهة أسئلة الدكتور صالح رحمه الله وبارك في ذريته.