الإدارة الأهلية: سبحان من يحي العظام وهي رميم

0 81

 

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

(كتبت هذه الكلمة بعد انقلاب المجلس العسكري الثاني في ٣ يونيو ٢٠١٩ بعد مذبحة القيادة ومساعيه لبناء قاعدة اجتماعية حول قيادات الإدارة الأهلية، حقيقين ولبطيه، في مباني معرض الخرطوم ببري. وذكرت لهم يوماً في ١٩٦٩ عادوا فيه للميدان السياسي بعد الحراك الشعبي ضد إداراتهم بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤، وقرارات مجلس وزراء الثورة حول تصفيتها المتدرجة، واللجنة التي تكونت لدراسة أوضاعها قبل تلك التصفية. عاد الرجالات بعد نكسة. وشجعتهم عل العودة استعادة النظام القديم لمواقعه بعد انتخابات ١٩٦٥ والتصفية التي تمت للثورة لا للإدارة الأهلية كما كان الاتفاق. وأدناه تجد مقدمتي لكلمة نشرناها في ١٩٦٩ بعد انعقاد مؤتمر رجالات (دائماً رجالات) الإدارة الأهلية)

 

ننشغل الآن بالحديث عن الإدارة الأهلية التي اختارها الفريق حميدتي، في عزلة مجلسه العسكري، لتكون القاعدة الاجتماعية التي يستند عليها انقلابه العسكري. ولا أعتقد أننا استعددنا لهذه المفاجأة مما اسميه “أخرجت البادية أثقالها وقالت الصفوة الحديثة مالها”. فقد تواضعت هذه الصفوة، بعد نكسات المشروع الحداثي لتصفية هذه الإدارة أو تخليقها، على أن هذه الإدارة مفصلة على حاجة الريف تحت آبائه الطبيعيين من النظار ومن لف لفهم في خَلْق الدولة الحديثة. ويا دار ما دخلك شر. وبطل الاجتهاد. وواضح من الجانب الآخر ثقل دارفور في حراك تحالف الإداريين الأهليين مع المجلس العسكري. وهي إقليم غطى خبر الحرب عنها على العلم ببواعث الحرب، ومساراتها، ودينامكيتها الاجتماعية، وآثارها.

وأريد هنا بيان ردة فعلنا شباب ثورة أكتوبر 1964 على مؤتمر للإدارة الأهلية في الخرطوم في يناير 1969. وكان المؤتمر بمثابة استعراض قوى من طاقم تلك الإدارة في وجه الحركة الاجتماعية التي كانت تطالب بتصفيتها بين المراكز المتقدمة من السكان ودرءً للتشريعات البرلمانية التي استهدفتها من النائب البرلماني المرحوم علي محمود حسنين بمؤازرة من النائب أستاذنا عبد الخالق محجوب. وسترى في كلمتنا محاولة للتحليل السياسي الثقافي لمدلولات ذلك المؤتمر في بيئة نجحت الثورة المضادة في كبح جماح أكتوبر الجذري منذ 1965.

 

تقرير عن النشاط الرجعي (أخبار الأسبوع 30 يناير 1969)

عبد الله علي إبراهيم وعبد الله جلاب

 

وقع مؤتمر الإدارة الأهلية في الخرطوم في يناير 1969 (ألف منهم) في سياق زحام رجعي: الدستور الإسلامي، الحكم بردة محمود محمد طه. وكان المؤتمر إنذاراً للسياسيين: سنساند في الانتخابات القادمة من يساند الإدارة الأهلية. وسيكرمون النواب الذين أسقطوا اقتراح على محمود حسنين (النائب من خلفية إسلامية ثم تحول للوطني الاتحادي وصار نائباً عن الحزب في انتخابات 1968) عن الإدارة الأهلية. واتفقوا على تطهير الإدارة ممن ثبت تورطه في فساد منهم. وطالبوا بزيادة مرتباتهم وصرف كادر لهم (يعني إدارة أهلية على النفقة). ووصفوا اجتماعهم بأنه انتشال للبلاد من وهدتها.

قلنا في المقال إن مؤتمر الأهليين لا يعبر عن قوة لمؤسستهم التي عفا عليها الدهر، بل عن ضعف البرجوازيين في النادي السياسي. فقد نضبت هذه الفئة وجفت عن إلهام الوطن على طريق الولاء القومي والديمقراطية. فقد خلا وفاضهم من بديل للإدارة الأهلية يتجاوز مجرد الإدارة إلى “بديل متعدد الجوانب يستوعب الوظائف الاجتماعية والنفسية التي اكتسبها نظام الإدارة الأهلية بتغلغله عميقاً في الحياة القبلية والتقاليد”.

وتطرقنا إلى عزلة الإداري في الريف وسفره كارهاً مناطق شدة القبائل. ويصبح بذلك أسير مكتبه يرابط فيه مع الناظر والعمدة وسائر ممثلي الإدارة الأهلية الذين هم بوابته إلى “شعبه”. ويتكالب عليه التاجر والمقاول ويتواصل مع الموظفين من مقامه العالي. وهذا منشأ القلعة الحكومية المغلقة في مدن الأرياف لا يغشاها طائف من الشعب أو همومه أو لغته.

ثم عرضنا لتاريخ نهضة المتعلمين ضد هذا النظام في أوج ثوريتهم. فقد نشأت الإدارة الأهلية بعد ثورة 1924 لمعاقبة الأفندية لطموحهم أن يكونوا قادة بلدهم. وجئنا بكلمة سير جون مافي (1927)، الحاكم العام، في لؤم طباع المتعلم من مدارسهم حسب خبرته في الهند. ثم جئنا باحتجاج محمد أحمد المحجوب على تبني الإنجليز للإدارة الأهلية من كتابه “الحكم المحلي في السودان”.. وعرضنا لتهافت الخريجين اللاحق ولحسهم لعقائدهم بشأن ارستقراطية المشائخ.

وقلنا إن الزعماء جاؤوا ليردوا السياسيين إلى صوابهم بعد ثورة أكتوبر التي نادت قواها بحل الإدارة الأهلية. فقال سرور رملي، ناظر ريف شمال الخرطوم، إن شغلهم الأهلي كان: “منذ بدء الخليقة”. وقال علي عبد الرحمن، زعيم حزب الشعب ووزير الداخلية آنذاك، إن الإدارة الأهلية بدأت منذ السلطنة الزرقاء. وقال إن يوم اجتماع الأهليين في الخرطوم “يوم خالد وأنها فرصة عظيمة وكان واجب الحكومة أن تطلب منهم الاجتماع لتتعرف على شكواهم ومطالبهم . . . وأن البلاد لا يمكن أن تسير بدونها (الإدارة الأهلية).” وقال كانت لزعماء القبائل اليد الطولي في تحقيق الاستقلال. ووصف الإدارة الأهلية بأنها أساس الحكم. ووصف شعار تصفية الإدارة ألأهلية بأنه خطأ كبير وأن من ينادي به يبني كلامه على الخيال. وشبه الحكومة والإدارة الأهلية بأنهما في سفينة واحدة. فإن لم يتعاونا غرقت السفينة “ونروح كلنا”.

وتهكمنا في مقالنا على خيبة طلائع المتعلمين وشراكتهم للإدارة الأهلية في القيادة التي طلبوها لأنفسهم خاصة في وقت باكر لمقتضى الحداثة ونفوها عن الأهليين بمقتضى التخلف. وقلنا من الريس في هذه المركب؟ لأن ريسين غرقوا المركب في المثل السائر.

وختمنا كلمتنا ب:

“خابت توقعات سير جون مافي (الحاكم العام ١٩٢٦) في الجيل المتعلم الذي يستوعب القبيلة في الوطن. فانتهى المحجوب إلى رجل غير عادي له السلطة والجاه ويقال فيه الشعر. وانتهى شيخ علي عبد الرحمن إلى الفزع من الغرق. وأخفقت نهائياً الطبقة البرجوازية الإدارية والسياسية في أن تصنع وطناً قومياً بولاءات جديدة أو أن تطرح بديلاً للمؤسسات التقليدية. حسبوا المعركة ضد الطائفية تلويحات مهرجة عن مصادرة النخيل والأراضي التي تمنح للسادة. وحسبوا أن المعركة ضد الإدارة الأهلية منافسة بين الرجل العادي وغير العادي . . . فانتهوا إلى درك من الرذائل والضمير غير السوي”. غاب عنهم البعد الاجتماعي والنفسي لتلك المؤسسات التقليدية، والتي إن لم نستوعبها بالدرس والمثل والقدوة، وباستشراف مجتمع عادل متقدم، فسينهار كل شيء وستعود الولاءات القديمة تعبر عن نفسها “بقوة” تبث الفزع في موائد البرجوازيين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.