بشير عبّاس: شيخ طريقة موسيقية
كتب: السفير جمال محمد ابراهيم
.
كانت طريقة بشير عباس في العزف على العود تنبي عن تأثر بليغ بالموسيقى العربية والمصرية بوجه خاص، ولكن بشير لم يستسلم لذلك الأثـر، بل أفاد منه ولم يجعل نفسه محل خضوع لتـلك الموسيقى فخلط ذلك التأثير بتربية فطرية سودانية صميمة، هي التي نسميها دون كثير حذر، طريقة بشير عباس. .)
علي المك
من كتاب:”عبدالعزيز أبوداؤود”
رحم الله بشيراً وأغناه بشآبيب غفرانه ، بأكثرممّا أغنى دنيانا وأشجى أرواحنا بعذب موسيقاه ورقيق معزوفاته، فروّى جفاف أيامنا غيوثا ، وكآبة ليالينا إسعاداً. .
ما أصدق قلم الرّاحل علي المك، يصف لك أسلوب الموسيقار الفنان بشير عبّاس(1940م-2022 م)، فيقول عنه ” طريقة” ، فكأنّهُ يحرّر الكلمة من مدلولاتها الصوفية ليسقطها على ذلك الأسلوب المتفرّد الذي ألفنا سماعه من ألحان تخرج من أصابع بشير ومن صفير يطلقه من بين شفتيه. كنا في صبانا وقد زارت آذاننا ألحان بشير، نعجب من موسيقى تخرج من أوتار ومن صفير فم، فنعجب لموسيقار يمنح الآلة الموسيقية عملياً، شيئاً من نفسه فيمازجها مزج البشريّ بالجمـاد ، فيخرج اللحن هجيناً متفـرّداً، لا أحسب أنّ موسـيقياً سبقه إلى مثل تلك المعالحة الفـريـدة.
لعلك لو أنصتَ بقلبـك قبل أذنك لمقطوعة ” القـمر في كنـانة” ، لن تملك إلّا أن تعجب كيف تصنّف ذلك العمل الموسيقى المغنّى ، فلا هو مقطوعة موسيقية بحتة ، ولا هو غناء محض، وإن خالطه كلام مُغنّى. تلك “طريقة” بشــير وتميّز إبداعه.
لو نظرتَ لمسيرة هذا الفـنـان الموسيقار- المُغنّي، فإنك ترى ثراء التنوّع يجري في دمه، ومن بين أصابع كفّـه فيخرج إبداعـاً موسـيقياً بديعـا. منذ نشأته الأولى ، بافعاً في “حلفاية الملوك” ، ثم هو في أمكنة عديدة في ربوع السودان، شماله وشرقه وغربه وجنوبه. تنبيك مقطوعات حملتْ أسماء أمكنة مثل “مـريــدي” ، ونهر “الجَـور” و”كـنـانـة ” وليالي “الخرطوم” و”النـيليـن” ، عن ثراء عملي وجغرافي ، مازج روح فنان مُبدع، استنطق ثراء التعدد في سودانه الذي أحب . نجح “شــيخ الموسـيقى” في استنشاء “طريقة” موسيقية تفـرّد محتواها ، وتنوّعت نغماتها ، ثمّ طار صيتها ، ليس في الأمكـنة السودانية التي صاغ مستلهماً أجواءها، بل خرجتْ موسـيقاه وترانيـمـه إلى أبعد من السودان ، تُحـدّث عن إبداعٍ سودانيّ، بلغ به بشــير أصقاع الدنيا، فاعتمدتْ أوتاره البديعة سـفارة ثقافية كاملة المعالم لبلاده السودان.
من ذا الذي لا يرى الموسيقى لغـة تعلو على كلّ اللغات المنطوقة والممقروءة والمسموعة ؟ قد تستعصي على الناس اللغـة الـ”مروية”، أواللغـة “الهيـروغليـفـية”، أو حتى اللغات “الهندوجرمانية”، غـير أن الموسيقى ، والموسيقى البحتة تحديداً ، تتسلل إلى كلِّ أذن في الدنيا، بمثلما ينفذ الهواء إلى الرئتين ، أومثلما تغازل النسائم أكمام الورد، أو مثـل تجلّى الضياء فضيّاً صـافـياً من قلب قـمـرٍ بعيدٍ رافلٍ في سمائه. تظلّ الموسيقى هي اللغة الأولى والأخيرة ، تنسـاب من بين سبابة ووسطى وبنصر وخنصر، ومن نَـفَـسِ موسيقيٍّ بريعٍ، فتمتلك حواسك ألحان تتشمّمها عبيرا فائحاً ، من قبل أن تتسمّعها أذنيك صوتاً . لو شــئـت أن تستوثق ممّـا كتبـتُ لك هـنا ، عُـد إلى “يوتيـوب” لتنصت لهذه الأصابع وتلك الأنفاس، وقـد أبدع صاحبها ممّا لحّـن وتغنّى “العميــدُ” من كلمات حسن عوض أبوالعلا “سفري السبب لي أذايا”. .
أقول لك أنّ أصل الابداع، هو ما يصدر عن روح الفنان ، والموهبة فطـرة من الله يهبها لبعض خلقه. لم تكن أصابع بشير من صقل تدريب أو تدارس . لم ينتظم بشير في معهد موسيقى أو كونسيرفتوار. بدأ صبيا يتعلم الصفير بالمزمار ، في ذلك مثل سائر أقرانه الصغر في الحلفايا ، وانتهى عوّادا بأصابع من هبة الخالق لا تجارى. كبر موظفا عاديا تشغل معازفه حيّزاً من بعض يومه، لكنها ملكت عليه حياته، فاستقل بنفسه وبموسيقاه ، عصامياً قد انكبّ على تطوير مهاراته في مناغمة معازفه من مزمار وعود، فبلغ في حذقه العزف على أوتار العود شأواً عالياً.
ثم إنك لا تسمع لبشـير صوتا في الغناء ، فهو اللصيق حباً وولاءاً للموسيقى، المنقطع حباً لمعازفه، لا يتجاوزها للأداء الصوتي، وظنّي أنه لو جرّب لأجاد. . يقول على المك في كتابته الحميمة عن أبي داؤود وعن بشير عبّاس، أن عبدالعزيز طلب من بشير مرافقته في خمسينات القرن الماضي إلى مصر لأحياء حفل ولتسجيل أغان قي القاهرة ، وربما لإذاعة ركن السودان التي أرادتها مصر صوتاً مسموعاً يعضد اللحمة بين الشعبين. ليست تلك الزيارة هي الأولى لبشير إلى القاهرة والتي قرّبته للموسيقى العربية. كان له هوى مع تلك الموسيقى. غير أنّ علــى المــك يقول لـك مع تأثر بشير بتلك الموسيقى العربية والمصرية بوجهٍ خاص ، (لكنه لم يستسلم لذلك الأثر بل أفاد منه ، ولم يجعل يستسلام لتلك الموسيقى ، فخلط ذلك التأثيـر بتربية فطرية سودانية صميمة. تلك هي عصامية بشــير الذي ابتنى تفرّده من رعاية موهبته بيـده لا بيـدِ سِـواه. تلك هي العصامية التي حـدّث عـنها الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني والتي علمتْ صـاحبـها الكرَّ والاقـدامـا.
لأبي داؤود المطرب العملاق، صوتٌ ضخم مليء بأثـر التـرعـيـد ، فلحّـن له بشــيـر أولى تجاريبـه في التلحين ، فأحسن الملحن الشاب حُسـناً باهراً. وما أهمل أبو داؤود أغنية “أشـوفـك في عـيني” وقــد نظمها عبدالله النجيب، ووضع بشــيـر لها لحـناً هـادئاً شـجيّا، فخرجتْ الأغنية من حنجرة أبي داؤود جوهرة مُغـنـاة. غـيـر أنك لا تجـد ابداع موسيقاه البحتة واقفاً عند سقف ، ثم يفاجيء الساحة الفنية برعاية أصوات جديدة لصبيّات يافعات ، أصواتهن أبعد بأشـواطٍ عن صوتِ الترعيد الحاني الذي سمعه الناسُ عند أبي داؤود. لكن قدم بشـير لحناً خفيفا راقصاً لكلمات تناسب عمـر تينـك الصبيات ، نظمها شاعر شاب قادم من كسلا، تغنى بكلماته مطربون ذوو وزن. أحدثت أغنية “شـايل المنـقـة” أثراً بعيداً ومنحت المذاق السوداني نفساً جديداً غير معهود في سنوات السبعينات تلك. يعرف بشـيـر كيـف يزاوج بين القصيـد واللحن وصوت المُطـرب ، مزاوجة العطّـار لمكوّنات عطـره السّـريّ الآسر . “أشــوفـك” التي لحنها بشـيـر لأبي داؤود، رجالية تـشابه عطـر “بووص” ، لكـنّها غـيـر “شـايل المنـقـة” التي نظمها الشاعر الحلنقي، وهي لا تماثل في رقتها حين تخرج من أصوات “البـلابـل”، إلّا عطـر “شـانيل 5”. . ! ومَـن مثل بشــير ومن في حذقه لتحقيق مثل تلك المزاوجة التي أنـشـأها بعبـقـريته في الموسـيقى ورقته في الإطـراب ؟
حين فارق أبـو داؤود دنيـا الـنّـاس عام 1984م ، كتب الرّاحل علـي المــك في بكائيته، أنّ “الخرطوم بحري” دخلتْ “بيت الحبس”. لقد غادر دنيانا كبير الموسيقيين وملك العود بشير عباس ، فلم تدخل “حلفاية الملوك” وحدها “بيت الحبس” ، بل لحقتْ بها “الخرطوم” و”النيـليـن” و”مـريــدي” و”كِـنــانة”. .
رحم الله الراحل العزيز، فلقد خلف وراءه ما يخلد ذكراه. .