حول ظاهرة البلابل: لأنَّ التُّراب في الحنجرة (١-٢)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(في النصف الثاني من السبعينات ثار نقاش حول علاقة المرحوم بشير عباس بالبلابل. ووجدت الأسئلة التي حاصرت تلك العلاقة الخصيبة عقيماً سيئة الطوية الاجتماعية. وكانت حالة شعواء من القتل الطقوسي للظاهرة. فكتبت هذه الكلمات في جريدة الصحافة)
لابدَّ أن تنزعج للياقتنا في القبول السَّهل لحادثات أساسية في الحقل الغنائي كمثل هجرة المبدعين، واضطراب ظاهرة (البلابل)وغيرها. هاجر الكابلي وكتب سليمان عبد الجليل كلمة صحيحة ضمَّنها حزنه للبرود الذي أحاط بنبأ الهجرة وبالهجرة ذاتها. وختم كلمته بقوله:( إنه شيء محزن ومخجل ومعه ألف حق في أن يهاجر ويسافر سفر الجفاء). وهكذا حوَّل سليمان غضبه المشروع الى يأس تشتم منه، ولو بطريق آخر، ذلك البرود ذاته.
ومن أخصّ مظاهر ذلك البرود قبولنا لمنطق تبريرات الكابلي لهجرته. حيث قال إنه يهاجر ليتفرّغ لأمانٍ فنيةٍ قديمة. والواضح أننا قد اقتنعنا بتلك التَّبريرات لأننا لم نصدِّقها. وكان من حقنا أن نسأل: ما هي تلك الأماني أولاً، ثم كيف لها أن تتحقق في غير أرضها وبين غير جمهورها، وأن نتحمَّل كوطن كلّ ما يترتب على هذا السؤال الصعب.
وهاجر أيضاً الحلنقي. الحلنقي الإضافة الكاملة للكلمة الغنائية على غرار خليل فرح والعبادي وأبو العلا وإسماعيل حسن.
الحلنقي الذي لم يعد خطونا على الأرض بعد غنائه مثله قبله. وبدأ الخبر الوحيد عن هجرته موجزاً. بصورة كالنعي. وهاجر محمد كرم الله. ووقع تفكك ظاهرة البلابل وانفصال الموسيقار بشير عباس عن بنات طلسم. وتنفسنا الصعداء كأن منكراً قد زال. لشد ما تهيأنا لهذا الانفصال حتى استبطأناه.
ويحتاج منا هذا الى وقفة خاصة بإزاء الطَّريقة الخاصة التي اغتلنا بها ظاهرة (البلابل). ويتحمّل مخبرو الصفحات الفنية ومنظمو المقابلات الاذاعية القسط الأكبر في ذلك الوزر. فقد تولوا نيابة عنا تطويق ظاهرة البلابل بعدد من الأسئلة المغلوطة والاستنتاجات السخيفة، وبفضلها تحولت ظاهرة البلابل الى الدفاع، وكان لا بد أن تُمنى بالخسران لأنها مما يكسب بالهجوم.
نوجز تلك الأسئلة والاستنتاجات في ما يلي:
1. بشير عباس يحصر البلابل في إطار ضيِّق.
أشيع في هذا المقام أن المغني سينتهي إلى التِّكرار إذا استقر على ملحِّن واحد. وهذا زعم باطل في بلد ظل أميز مغنّيه يلحِّن لنفسه لعقود من الزَّمان، ولم يتكلَّف مروجو هذا الزم البرهنة عليه من واقع نتاج البلابل.
ولو فعلوا ذلك لقدَّموا للبلابل كظاهرة مدخلاً لفحص مساهمتين وإعادة ترتيب أوضاع الظّاهرة، بما قد يأذن بملحن جديد أو غيره. وهذا أفضل من التطوُّع بالألحان كيفما اتفق. والحال هذه فمن حقنا أن نستمع لريبة البلابل البنات في هذا التّطوع، حيث قلن: (إذا لحّن أي فنان أغنيةً وكان اللحن جميلاً فقطعاً لا يمكن أن يعطيه للبلابل).
بلغ السؤال عن احتكار بشير عباس للبلابل حدَّاً دفع بشير نفسه ليقول فيما يشبه الندم إنه قد حصر نفسه في البلابل.
ومن أسف، أن تعتقد بلبلة أن انفصالهن عن بشير هو وجه من وجوه انتصار العلم والتقدُّم والغناء بالطريقة المهرمنة الصحيحة، لنتأمَّل كيف أفسدنا عليهن كل شيء. ومع ذلك فهذا غير صحيح، لا بمقياس علم الغناء (رأي غير خبير) ولا بمقياس الإنصاف.
2. ..ما الذي يبقى من الأخوات البلابل أمام سلطان القلب والزواج؟
يسأل هذا السؤال في الإذاعة خاصة بخجل لئيم وسوء ظن غريب بما يكشف عن سيكولوجيا ليس هنا مكان تقويمها. ونكتفي هنا بأنَّ السُّؤال دليل على أننا لم نتعامل مع البلابل كظاهرة جاءت لتبقى، أو حتى لتعيش أيامها المعدودات حتى آخرها. آهٍ، هذا نعيب اليوم في سؤال.
ونواصل