الفساد: حالة تسلل أم دافوري 

0 93

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم 

.

نعود لسيرة جرد حساب الفترة الانتقالية المجهضة طالما كنا في حديث تشليع لجنة إزالة لجنة التمكين بواسطة انقلاب ٢٥ أكتوبر. وكان الضلع البارز في هذا التشليع هو الضرب على وتر فساد اللجنة وأعضائها مما سبقتهم إليه أقلام فلولية في الثورة المضادة مثل صحيفة “اليوم التالي”.

في لحظة صدق نادرة لإسلامي في زمننا قال عبد الله إبراهيم إنه وجد بلاغاً من لجنة التفكيك بحق أعضاء بيروقراطيين منها لابتزازهم رجال أعمال والتربح من ذلك. ما قام به أولئك الأعضاء في اللجنة فساد. إي أنه جريمة قد تنكشف، أو لا تنكشف، ولكن القانون والإجراءات المالية لها بالمرصاد علاوة على حرية التعبير المكفولة للإعلام وسائر المواطنين للتبليغ عن مثلها، وتسليط الضوء عليها، وملاحقة السلطات لمحاكمة مرتكبها إن تراخت.

يقع مثل هذا الفساد في أرقى العائلات. وتخصص برنامج “جشع أمريكي” المثير في سرديات مفسدي أمريكا.

وكنت قصصت عليكم من قبل الفاسدة للنخاع ريتا كرندول المراقب المالي لمدينة ديكسون في ولاية إيلينوي. وفَجَرت ريتا فجورا. فاختلست أكثر من خمسين مليون دولار لتمويل اسطبلات خيول السباق التي تربيها، وأحرزت بها اثنين وخمسين كأساً عالمياً. واستشري اختلاسها خلال اثنين وعشرين عاماً حتى وقع الفأس على رأسها الكافرة في ٢٠١١. وضربت بحكايتها يومها المثل في سريان قوانين الحجز والمصادرة على لاغف المال العام حتى في ديمقراطية مؤثلة مثل أمريكا.

من أخطأ ما وقعت فيه معارضة الإنقاذ لثلاثين عاماً هي وصف ما كانت ترتكبه بحق المال ب”الفساد”. فانشغلت بالإثارة في مثل إذاعة أرقام نهب الإنقاذيين المسلح (وربما هولت)، وبمن استولى عليه، وأين أودعه عن تنمية فقه أدق وأنفذ إلى ديناميكيته. وأشرت مراراً إلى مساهمة باكرة للواثق كمير وإبراهيم الكرسني في أخريات عهد نميري نقضا فيها القول الشائع أن نهب الدولة بواسطة ولاتها فساد وحسب. ورتبا مناقشة جيدة انتهيا بها لوصف الفساد بأنه العامل الخامس للإنتاج (الأرض، العمل، رأس المال، ودبارة الاستثمار). وأرادا بذلك أن الفساد ليس مجرد اختلاس مال عام، بل عاملاً ينتج الثروة لطائفة من ولاة الأمر بقوة السلطة.

ولو كان لابد من مصطلح “فساد” فسنرى أدبيات السياسة المعاصرة ميزت ما وقع من مثل دولة الإنقاذ بوصفه ب” “الفساد المتوحش” (predatory corruption). ويريد به أهله وصف أكثر من الفاسد الذي يمد يده للمال العام من اختلاس ورشوة ليصف الفاسد المتوحش الذي يخرج بقوة يمارس الفاسد ويوطده. ولا معقب.

والفساد المتوحش هذا عنوان كبير في نظم الحكم في أفريقيا وغيرها مما توالي الكشف عنه “أوراق بندورا” التي تصدر على أيامنا هذه عن جمعية الصحفيين العالمية الاستقصائية. وهو فساد ترتعب له دول الغرب لأنه ينتهي، بغسله، من أفريقيا إلى دورتها المالية فيسممها. وتنتاب دول الغرب منذ وقت غير قصير حمى قانونية لدرء هذا المال السحت السام عن شواطئها. واعترفت هي نفسها بأن تشريعاتها في حربه فارقت قواعد القضاء الطبيعي.

ولغت الإنقاذ في الفساد المتوحش منذ نحو ٢٠٠٦ تقريباً. فلم تعد للدولة ولاية على المال العام باعترافهم. فمكنت منه الحاكم وبطانته بالتجنيب والشركات الحكومية وسبل أخرى مما سمعنا من لجنة إزالة التمكين. وقلت قبلاً إن استباحتها للمال العام هكذا جعل منها دولة لصوص kleptocracy في مصطلح علم السياسة الأفريقي. وهو مصطلح لم يقارفه علم المعارضة عندنا لغلبة الإثارة على العلم فيه.

إذا أردنا تبسيط ما حدث بلغة المستديرة قلنا إن مصلح الفساد الجاري على لسان معارضة الإنقاذ كمثل حالة التسلل في كرة القادم. هي اختلاس تنتظره قوانين مرعية. وقد يكتشفه الحكم ورجال الخط (ونساؤه)، أو لا يكتشفونه، ويحتج الجمهور. ويمكن مراجعة خطأ عدم اكتشافه عن طريق الصورة في أيامنا هذه. أما فساد دولة اللصوص فهو كالدافوري الذي الأحكام فيه معطلة. ولهذا سار فينا وصف كل عمل جائط بالدافوري.

لو أشاع الفلول راكبو موجة انقلاب ٢٥ أكتوبر تهم الفساد عن لجنة إزالة التمكين كما فعلوا ويفعلون فلأننا، بالقول الحاف عن فساد الإنقاذ كمجرد تسلل للمال العام، يسرنا لهم الأمر. فمهما قلنا عن الفساد في أداء لجنة التمكين، فهو حالات تسلل. أما الإنقاذ فهي نظام متكامل لدوري دافوري منقطع النظير في المال العام. وقال البشير مزهوا للشرطة لو كانت المنشأة التي افتتحها لهم مرة من مال التجنيب فيا مرحى. ولم ينتظروا أن يكتشفهم الناس. بل كان بعضهم من الورع، أو المكر، ليكتشف سوءتهم مثل حسن الترابي وإبراهيم أحمد عمر وآخر راح عليّ اسمه في تسجيلات ذائعة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.