القاضي الشهيد: هرج القضائية

0 70

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

ذاعت كلمة للكاتبة الأمريكية أدري لوردي قالت فيها:

أدوات السيد لن تهدم بيت السيد أبدا. قد تأذن لنا مؤقتاً بالإيقاع به في لعبته التي يجيدها، ولكنها لن تأذن لنا بإحداث تغيير ذي معنى في الأوضاع. وحسب هذه الحقيقة تهديداً لنساء ما زلن يرين أن بيت السيد هو مصدرهن الوحيد الساند لظهرهن.

أرجو أن أعتذر عن مواصلة حديث الأمس عما اعتقدت أنه سبلنا للوقوف ألفاً أحمر في مواقع الهجوم بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر لتعزير الثورة المستمرة في الشارع. وصدرت كلمة الأمس بعد انزعاجي لمواقع الدفاع التي بدا لي أن قحت ومعارضها الشيوعي قد تراجعت إليها.

ساقني بحثي عن هذه السبل إلى قراءة قانون معاشات القضاة لسنة ١٩٩٩. ولم أصدق أن وجدت فيه مصداقاً لعبارة وردت عن مولانا عبد القادر محمد أحمد في معرض وجوب إصلاح المنظومة القضائية الموروثة عن الإنقاذ في وجه من جعلها مما لا يمس باسم حرمة القضاء. فقال:

ونحن نتطلع لإعادة بناء السلطة القضائية وتحقيق استقلالها وحيدتها ونزاهتها، في مثل هذا التوقيت لا بد أن نعيد للأذهان سيرة القضاة الذين فتحوا مكاتب داخل السلطة القضائية وكتبوا على أبوابها “مكتب المؤتمر الوطني فرع السلطة القضائية” و “منسقية الدفاع الشعبي فرع السلطة القضائية”. لا بد أن نعيد سيرة الذين تركوا قاعات المحاكم وذهبوا الي معسكرات الجهاد السياسي، والذين عملوا كضباط في جهاز الأمن والمخابرات، والذين أصبحوا أعضاء في دوائر خاصة تفصل الأحكام القضائية وفق ما تريد”.

لم يطرأ لي وقت قراءة عبارة عبد القادر أنني سأعثر على سند من المؤسسة القضائية عليه. حسبت الممارسات التي أتى عليها من مباذل أفراد خرعين هوانات في القضائية زلفى منهم لنظام الإنقاذ ودناعة (دناءة). وكذبتني الحقيقة.

ولا أخفي دهشتي وتقززي حين وجدت في باب تعريف مصطلحات قانون القضائية لعام ١٩٩٩ تعريفاً لمصطلح “القاضي الشهيد”. وهو القاضي الذي تكون وفاته بسبب حادث في أثناء خدمته وبسببها. وجاك الموت يا تارك الجهاد. فيواصل القانون تعريف القاضي الشهيد بقوله “أو لاشتراكه في عمليات جهادية بشرط أن يصدر قرار من المفوضية القومية للخدمة القضائية باعتباره شهيداً”.

لو بلعنا كل هذا الهرج على عسره صح السؤال: ما اختصاص المفوضية القضائية للتقرير بشأن استشهاد قاض فيها؟

وترتب على كون القاضي الشهيد حقيقة في صلب القضائية لشموله بالتعريف في قانونها أن كانت له حقوق وامتيازات. فالمادة ٣١ (١) تقول باستحقاق عائلة القاضي الشهيد معاشاً عائلياً خاصاً يساوي الحد الأقصى للمعاش المنصوص عليه في المادة ١٩ بأقصى مرتب الدرجة التي تلي درجته صعوداً. وتُمنح عائلته بالإضافة للمعاش المستحق منحة تعادل مرتب سنة.

ولا أدري وجه الحق للذي يزعم لقضائية الإنقاذ الاستقلال عن نظامه وهي التي حولت نفسها بنفسها، وفي قانونها المؤسس، حاضنة لإيدلوجيته السياسة المركزية وهي الجهاد. فكيف بربك أجازت القضائية لقضاتها ليس الخروج في نشاط سياسي سافر ضد مواطنين هي موئل حقوقهم الدستورية فحسب، بل كافأت هؤلاء الآيات الله متى قضوا نحبهم دون الغاية في الغابة؟

ودخلت الرئاسة التنفيذية، أي عمر حسن أحمد البشير المخلوع، من باب معاشات القضائية كما دخلت من باب قانون المفوضية القومية للخدمة القضائية لسنة ٢٠٠٥. فبحسب قانون الأخيرة فهو الذي تُرفع له التوصية من المفوضية ليعين رئيس القضاء ونوابه، وقضاة المحكمة الدستورية، وقضاة المحاكم القومية العليا. ولما سئم القانون عن الحصر قال “وكل القضاة”. فكما ملكت السلطة التنفيذية سلطان التعيين للقضائية ملكت بقانون المعاشات حق إكرام من أحسنوا صنعاً لها. وجاء هذا في المواد ١٤، ٢٠-١، ٢٠-٢، ٢١.

*فمن حق الرئيس منح معاشات استثنائية للقضاة المتقاعدين وعائلاتهم (١٤).

*ويجوز له إجراء تحسينات في المعاشات بموجب قرار يصدره. كما يجوز لمجلس الوزراء ذلك (٢٠).

*ويجوز لرئيس الجمهورية استبقاء قاض بلغ سن المعاش في الخدمة حتى سن السبعين. وتكون خدمته المنحة خدمة معاشية (٢١-١).

وأعلم، هداك الله، أن كل هذا التجويز للرئيس ليلوح بالجزرة للقضاة، ومن بلغ من الكبر عتيا منهم، بتوصية من المفوضية القضائية.

لم أكف عن القول إن معارضة الإنقاذ حاربت نظاماً لم تكلف خاطرها قراءة نصوصه التأسيسية. وسبق لي القول أيضاً أنهم حين عدوا الإنقاذ نظاماً ظلامياً غير شرعي حجبوا الاعتراف به بالإضراب عن الاطلاع على طرائقه العفريتية التي شكل بها حياتنا لثلاثة عقود. ولما وقع النظام من الله سعت لتفكيكه بإجراءات لم تقم على ثقافة تسربت للناس عن شروره وتملكت عقلهم وفوادهم. وهي الثقافة التي كانت عقود المعارضة الطويلة وقت استزراعها. ولم يكن جهلنا بفسق النظام وهرجه جهلاً. كان غاية العلم: من أين جاء هؤلاء الناس. أما. وكفى السؤال عن الإجابة.

ولما خلا المعارضون من هذه الثقافة في مسألة تفكيك النظام مثلاً سرعان ما أذعنوا للثورة المضادة بقبول حجتها الصفيقة من أنه القضاء، ولا غيره، من نحتكم له في محاسبة النظام المباد. وكل ما عدا ذلك ستالينية وإنقاذية. يقولون بالأخيرة مكاء وتصدية. وروج لحرمة القضاء ثوريون بصور أخرى لا تخلو من ختل. ووقعنا في محاذير لوردي:

أدوات السيد لا تهدم بيت السيد

وكانت الضربة القاصمة للثورة من بيت من بيوت السيد وهي القضائية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.