“بين الروايات الأحادية وحكم الفرد”
كتب: د. عمرو حمزاوي
.
يعمد الشعبويون الذين بلغوا (انتخابيا) مواقع الحكم في النظم الديمقراطية، شأنهم شأن حكام النظم السلطوية، إلى فرض روايتهم الأحادية للأحداث على الفضاء العام بغرض تزييف وعي الناس. هنا يعمد هؤلاء الحكام إلى توظيف تمريرهم لقوانين وسياسات وقرارات تمنع بل وتجرم حرية تداول الحقائق والمعلومات إلى فرض سيطرتهم على المجال العام بمكوناته التقليدية المتمثلة في وسائل الإعلام وفي مساحات النقاش العلنية في المدارس والجامعات ومؤسسات التنشئة الدينية والمدنية وغيرها.
توظف «ذات الأسلحة» لقمع المجتمع المدني المستقل بمنظماته ونقاباته المهنية وحركاته العمالية ومبادرات المواطنين غير التقليدية وفرض حصار الإلغاء والتهجير على المواطن المتمسك بحرية الفكر وبالتعبير الحر عن الرأي بعيدا عن المجال العام وإخضاعه للتهديد المستمر بالقمع وإحاطته بأسوار الخوف. توظف «ذات الأسلحة» أخيرا، للقضاء على السياسة كنشاط سلمي وحر وتعددي يبتغي صناعة التوافق حول الأهداف المشتركة للناس وللمجتمع ولمؤسسات الدولة لكي يفرضوا روايتهم الأحادية.
ومن خلال روايتهم الأحادية يصنع الشعبويون من أنفسهم أبطالا مخلصين ومنقذين، ومن مؤسسات وأجهزة قمعهم الأدوات الوحيدة لحماية الأمن القومي والمصالح الوطنية إزاء المؤامرات والمتآمرين، ومن المظالم والانتهاكات عنوانا إن لمنع الهجرة واللجوء أو للقضاء على الإرهاب، ومن رافضي الصمت على الظلم وغياب العدل خارجين على القانون يقبل أن ينزل بهم «العقاب الجماعي» لتطهير البلاد من شرورهم، ومن المواطن كيانا يعطل ضميره وعقله لكي يذوب في جمع يؤيد البطل المخلص ويشعر تجاهه بالحب والامتنان والعرفان.
غير أن ما تمارسه الحكومات الشعبوية والسلطوية في عالمنا المعاصر، من توظيف عنيف لكافة استراتيجيات تزييف الوعي الجمعي هذه لا يمكنها من فرض روايتها الأحادية كحقيقة مطلقة لا تقبل المنازعة.
من جهة، لأن التكنولوجيات الحديثة، وكما تمكن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية من المراقبة الدائمة للمواطن والتنصت المستمر عليه، تمكن أيضا من تداول الحقائق والمعلومات وتسمح للمواطن إن رغب بتحدي القيود الكثيرة التي يفرضها المستبدون في هذا الصدد.
من جهة ثانية، لأن المجال العام لم يعد يقبل الاختزال إلى وسائل الإعلام التقليدية ومساحات النقاش العلنية المسيطر عليها حكوميا وأصبح يتسع لوسائط الاتصال الاجتماعي ولساحات للنقاش إما تغيب عنها ثنائيات القوة والسلطة التقليدية أو تحضر بتنوع في وجهاتها ومضامينها على نحو يبقي على درجة متميزة من حرية الفكر وحرية التعبير عن الرأي ومن التعددية.
ومن جهة ثالثة، لأن الكثير من المجموعات المدافعة عن الحقوق والحريات والديمقراطية على الرغم من حصار الإلغاء والتشويه الذي تواجهه تستثمر بوعي بعضا من طاقاتها المعرفية وإمكانياتها البشرية وقدراتها التنظيمية بغية تدوين تفاصيل الحكم الشعبوي والسلطوي ومن أجل السعي لنزع طبقات الزيف المتراكمة بعيدا عن المظالم والانتهاكات لكي تراها قطاعات تتسع باطراد من الناس على حقيقتها وتدرك كونها ممارسات غير إنسانية يستحيل تبريرها.
لذلك، يبدو جليا في عالمنا المعاصر انصراف قطاعات شعبية مؤثرة عن الروايات الأحادية، وتبلور روايات بديلة تسمي المظالم والانتهاكات بمسمياتها دون تحايل أو مساومة. تتساوى في هذا براميل ديكتاتور سوريا المتفجرة والقتل الجماعي منخفض التكلفة الذي تنفذه عصاباته مع جرائم داعش مع قتل المدنيين في الحروب الأهلية وترك المهاجرين غير الشرعيين للقتل ونهش الأجساد والأرواح، إن غرقا أو تجمدا.
ولذلك سيظل حكم الفرد الذي يؤسس له الشعبويون وحكام النظم السلطوية ظاهرة متهالكة حتما سيتجاوزها واقع المجتمعات المعاصرة في السياسة بعد أن تم تجاوزه في كافة القطاعات الأخرى. فليس حكم الفرد سوى عنوان تناقض صارخ بين قواعد العمل الجماعي والتشاركي التي تدار وفقا لها الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات المعاصرة حين يضطلع بها القطاع الخاص أو تشرف عليها المنظمات غير الحكومية، وبين النهج الرديء في السياسة وأمور السلطة حين تخضع لفرد أو مؤسسة أو نخبة وحين يخير الناس بين الطاعة والامتثال أو القمع والعقاب.
ليس حكم الفرد سوى عامل إفساد أساسي للمواطن والمجتمع والدولة. فالمواطن يفقد القدرة على الاختيار الحر، ويراوح بين مواقع الخوف من القمع (التي تدفعه تارة إلى إظهار التأييد للحاكم وأخرى إلى العزوف والصمت) وبين خانات الانسحاب من الشأن العام والبحث عن الحلول الشخصية. وتصيب المجتمع في مقتل بارانويا الشك التي تضفي شرعية زائفة على المظالم والانتهاكات، والحصيلة هي مجتمع خائف وضعيف يتصارع به الجميع ضد الجميع. أما الدولة فيفسدها فقدان الثقة الشعبية في مؤسساتها وأجهزتها التي يورطها حكم الفرد في تجاوزات ومظالم وانتهاكات يومية، ويفسدها أيضا تغول الحاكم وسوء استغلاله لسلطات المنصب العام ووضعه «لأهل ثقته» في مراكز صنع القرار الرسمي دون كثير اعتبار لكفاءة أو رشادة أو رؤية (تذكروا تعيينات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لمناصب السلطة التنفيذية والسلطة القضائية).
ليس حكم الفرد سوى دليل بين على الوضعية المزرية لشؤون السياسة وأمور السلطة وللمتكالبين عليها مقارنة بالنخب الجادة التي تقود القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية وتصنع التقدم الحقيقي. معاهد البحث العلمي، الشركات العاملة في مجالات التطور التكنولوجي، تقنيات الرعاية الصحية، الشركات متوسطة وصغيرة الحجم التي تبحث باستمرار عن التميز والتفوق تارة بغرض التوسع والانفتاح على أسواق جديدة وأخرى من أجل البقاء وتجاوز الأزمات الاقتصادية والمالية الحادة دون انهيارات مؤثرة، المنظمات الحقوقية والجمعيات الأهلية؛ هم جميعا يصنعون التقدم الحقيقي من خلال العمل الجماعي وبتوظيف العلم، والإبداع، وحرية الفكر، والخيال. لا قبول لحكم فرد في أوساطهم، ولا رغبة لدى نخبهم الجادة في الالتحاق بشؤون السياسة أو التورط في أمور السلطة التي لا يرون بها ما يربط بينها وبين القرن الحادي والعشرين.
ليس حكم الفرد سوى تنصل مطلق من العبر التي استخلصتها البشرية المعاصرة وتقضي بكون مآله الوحيد هو أزمات لا تنتهي.